[إبراهيم الحربي يكتب اثني عشر ألف جزء]
هاهو المحدث الفقيه الأديب إبراهيم الحربي، يعتلُّ في آخر حياته، حتى يصبح صفر اليدين من متاع الدنيا؛ فليس في بيته إلا الخبز الجاف والملح، ولا غرو.
قَد يَنالُ العُصفُورُ وَفْراً وَيبقَى فِي سِجلِّ الخُمولِ تِلكَ الصُّقورُ
ويبعث له الخليفة بألف دينار، فيرفض أن يأخذها، فينصرف رسول الخليفة إلى الخليفة، ويخبره، فيقول الخليفة: ليفرقها في جيرانه.
فرجع رسول الخليفة إلى إبراهيم وقال: إن أمير المؤمنين يسألك أن تفرقها في جيرانك.
فقال: عافاك الله، هذا مال لم نشغل أنفسنا بجمعه، فلا نشغلها بتفريقه، قُلْ لأمير المؤمنين: إن لم يتركنا تحولنا عن جواره.
سمعت ابنته هذا الحوار، فغضبت وآلمها أن يرفض أبوها المال، وهم في أمسِّ الحاجة له، وجاء عمها لزيارتهم، فقالت: يا عم! نحن في أمر عظيم، لا في الدنيا نحن ولا في الآخرة، الشهر والدهر ما لنا من طعام إلا كِسْرٌ يابسة وملح، وربما عَدمنا الكسر، وربما عدمنا الملح، وقد أرسل الخليفة بألف دينار فلم يأخذها، وأرسل فلان فلم يأخذ منه، وهو عليل كما ترى يا عماه.
فنظر عمها إلى أبيها؛ يريد أن يجيبها، فالتفت إبراهيم إلى ابنته وتبسم وقال لها: يا بُنية! أو إنما تخافين الفقر؟ قالت: نعم.
قال: انظري إلى تلك الزاوية.
فنظرت في زاوية البيت، فإذا كتب بعضها فوق بعض، قالت: أبتاه! ماذا تغني هذه عنا؟ فقال: هذه اثنا عشر ألف جزء في الحديث والفقه واللغة، كتبتها بيميني، إذا أنا مِت، فبيعي كل جزء منها بدرهم، أو يفتقر من يملك اثني عشر ألف درهم؟
حاله: طعام دون طعام، ولباس دون لباس، جوع قليل، وعُريٌ قليل، وبرد قليل، وذل قليل، وصبر قليل، وإلى الله المصير.
لَيسَ السَّعِيدُ الذي دُنيَاهُ تُسعدُهُ إنَّ السَّعيدَ الذي يَنجُو مِن النَّارِ
إنها الهمم؛ تجعل في قلب صاحبها نار تتقد، كنار تتقد في قلب من يجد ابنه مريضاً لا يملك له شيئاً، أو من لا يجد في بيته شيئاً يَسُدُّ به رمق أولاده وهم يتضاغون عند قدميه، يقلق ويضطر إلى بذل الجهد والسعي.
إنها اثنا عشر ألف جزء، وبيمينه خطها، والإمكانات غير متوفرة، فلله الهمم ما أعلاها وأسماها!
وَالعَبدُ عَبْدُ النَّفسِ فِي شَهوَاتِهَا وَالحُرُّ يَشبَعُ مَرَّةً وَيَجُوعُ
يقول أبو العباس ثعلب: ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس لغةٍ ولا فقه منذ خمسين سنة.
لَهُ هِمَّةٌ تَعلُو علَى كلِّ هِمَّةٍ كمَا قَد عَلا البَدرُ النُّجومَ الدَّرَارِيَا