للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكمها رحمة ونعمة]

الصفحة الثامنة: حكمها رحمة ونعمة.

كان قتيبة بن مسلم الباهلي عليه رحمة الله في شرق الكرة الأرضية يفتح المدن والقرى، ينشر دين الله في الأرض، ويفتح الله على يديه مدينة سمرقند، افتتحها بدون أن يدعو أهلها للإسلام أو الجزية، ثم يمهلهم ثلاثاً؛ كعادة المسلمين، ثم يبدأ القتال.

فلما علم أهل سمرقند بأن هذا الأمر في دين الإسلام كتب كهنتها رسالة إلى سلطان المسلمين في ذلك الوقت؛ وهو عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله وأرسلوا بهذه الرسالة أحد أهل سمرقند، فاسمع إلى هذا الرسول.

يقول: أخذت أتنقل من بلد إلى بلد شهراً حتى وصلت إلى دمشق دار الخلافة، فلما وصلت أخذت أتنقل في أحيائها، وأحدث نفسي بأن أسأل عن دار السلطان، ثم أخشى على نفسي إن نطقت باسم السلطان أن أؤخذ أخذاً، فلما رأيت أعظم بناء في المدينة دخلت إليه، وإذا بالناس يدخلون ويخرجون ويدوكون، وإذا بحلقات في هذا البناء، وأناس يركعون ويسجدون، يقول: فقلت لأحدهم: أهذه دار الوالي؟ قال: لا.

بل هذا هو المسجد.

قال: هل صليت؟ قلت: وما صليت؟ قال: فما دينك؟ قلت: على دين أهل سمرقند، فجعل يحدثني عن الإسلام حتى اعتنقته، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلت له: أنا رجل غريب، أريد السلطان، دلني عليه -يرحمك الله- قال: تعني أمير المؤمنين، قلت: نعم، قال: اسلك هذا الطريق حتى تصل إلى تلك الدار، وأشار إلى دار من طين، فقلت: أتهزأ بي؟ قال: لا.

ولكن اسلك هذا الطريق، فتلك دار أمير المؤمنين إن كنت تريده، قال: فذهبت واقتربت، وإذا برجل يأخذ طيناً، ويسد به ثلمة في الدار، وامرأة تناوله الطين.

قال: فرجعت إلى الذي دلَّني وقلت: أسألك عن دار أمير المؤمنين فتدلني على دار رجل طيَّان؟! قال: هو ذاك أمير المؤمنين.

قال: فطرقت الباب، وذهبت المرأة، ونزل الرجل، ورحب بي، وغسل يديه وخرج وقال: ما تريد؟

قلت: هذه رسالة من كهنة سمرقند، فقرأها، ثم قلبها فكتب على ظهرها، من عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى عامله بـ سمرقند: أن نصِّب قاضياً ينظر فيما ذكروا، ثم ختمها، وناولني، وانطلقت يقول: فلولا أني خشيت أن يكذبني أهل سمرقند لألقيتها في الطريق، ماذا تفعل هذه الورقة وهذه الكلمات في إخراج الجيوش الجرارة، وذلك القائد الذي دوَّخ شرق الكرة الأرضية برمتها؛ يعني قتيبة بن مسلم؟

قال: وعدت بفضل الله مسلماً، كلما دخلت بلداً صليت في مسجده واجتمعت بإخوتي وأنست بهم، فأكرموني وأنسوا بي، فلما وصلت إلى سمرقند وقرأ الكهنة الرسالة أظلمت عليهم الأرض، وضاقت بما رحبت وقالوا: ما تنفع هذه الرسالة وماذا تغني عنا؟!

ذهبوا بها إلى عامل عمر على سمرقند، فنصَّب لهم الوالي جميع بن حاضر الباجي قاضياً لهم لينظر في شكواهم.

وحدد القاضي لهم يوماً اجتمعوا فيه، ثم قال القاضي: ما دعواك يا سمرقندي؟ قال: اجتاحنا قتيبة ولم يدعُنَا إلى الإسلام، ويمهلنا لينظر في أمرنا، فقال القاضي لخليفة قتيبة، وقد مات قتيبة عليه رحمة الله قال: أنت ما تقول؟

قال: لقد كانت أرضهم خصبة، وأرضهم واسعة، وخشي قتيبة إن هو آذنهم وأمهلهم أن يتحصنوا عليه، والحرب خدعة.

قال واسمعوا إلى ما قال: لقد خرجنا مجاهدين في سبيل الله، وما خرجنا فاتحين للأرض أشراً وبطراً، ثم قضى القاضي بإخراج المسلمين على أن ينذرهم قائد الجيش الإسلامي بعد ذلك وينابذهم وفقاً للمبادئ الإسلامية.

ما ظن أهل سمرقند أن تلك الكلمات ستفعل فعلها، وما غربت شمس ذلك اليوم ورجل من الجيش الإسلامي في أرض سمرقند، فخرج الجيش كله، وبدأ لينذرهم ويدعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، فلما رأى أهل سمرقند ما لا مثيل له في تاريخ البشرية؛ من عدالة تنفذها الدولة على جيشها وقائدها قالوا: هذه أمة حكمها رحمة ونعمة، فدخل أغلبهم في دين الله، وفرضت الجزية على الباقين.

فيا لله! أرأيتم جيشاً يفتح مدينة ويدخلها ويشتكي أهل المدينة للدولة المنتصرة، فيحكم قضاؤها على الجيش الظافر بالخروج، بل هل رأيتم في التاريخ قديماً وحديثاً حرباً يتقيد أصحابها بمبادئ الأخلاق والحق كما تقيد به الجيش الإسلامي؟ والله لا نعلم في الدنيا كلها موقفاً مثل هذا لأمة من أمم الأرض.

والليلُ يشهدُ والكواكبُ والثَّرى وكفى بهم شهداء يومَ الدِّينِ

جمال ذي الأرض كانُوا فِي الحياةِ وهم بعد الممات جمال الكُتْب والسير