[حسرة الأتباع المقلدين لكل ناعق]
حسرة الأتباع المقلدين لكل ناعق، يوم يتبرأ منهم من تبعوه بالباطل، فلا ينفعهم ندم ولا حسرة: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:١٦٥ - ١٦٧].
حسرة الظالمين المفسدين في الأرض الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً حين يحملون أوزارهم وأوزار الذين يضلونهم بغير علم، وحين يسمعون عندها قول الله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وهم بالآخرة كافرون} [الأعراف:٤٤ - ٤٥].
ومن أعظم المشاهد المخزية حسرة في يوم القيامة يوم يكفر الظالمون بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، محتجين ومتبرئين، فذاك قول الله: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم من الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً منَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لا تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف:٣٨ - ٣٩].
فيا حسرة الظَلَمَة وأعوانهم، يوم يعلمون فداحة جريمتهم في تنفيذ رغبات الظالمين، لكن حيث لا ينفعهم علم العالمين، وعندها لسادتهم يقولون: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً منَ النَّارِ} {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ} [غافر:٤٧].
فإذا بالسادة أذلة قد عنت وجوههم للحي القيوم، لا يملكون لأنفسهم شيئاً ولا يستطيعون.
يقولون: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:٤٨]
إن لله غضبة لو وعاها من بغى ما غدا يمض اللسانا
كم من ظالم يردد: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم من شَيْءٍ إِنهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:١٢ - ١٣].
فالعقلاء بمقولتهم لا يغترون، وإن فعلوا فإنهم يومئذٍ في العذاب والحسرة مشتركون.
تصور معي -أخي- ذلك الجو من الحسرة والخزي والندامة المخيِمة على المستضعفين والمستكبرين.
أتباع ضعفاء يتهمون زعماءهم بالحيلولة بينهم وبين الإيمان، ومستكبرون يقولون لأتباعهم: أنتم المجرمون، دعوناكم فكنتم مجيبين.
لو رأيتهم إذ وقفوا عند ربهم من غير إرادة ولا اختيار -مذنبون ترهقهم ذلة في انتظار الجزاء- لرأيت أمراً مهولاً، يتراجعون، يرجع بعضهم إلى بعض القول، يلوم بعضهم بعضاً، ويؤنِّب بعضهم بعضاً، ويُلقي بعضهم تبعة ما هم فيه على بعض.
يقول أتباع الضلال الذين استُضعفوا؛ لقادة الضلال الذين استكبروا: {لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ:٣١] يقولونها جاهرين بها، صادعين في وقت لم يكونوا في الدنيا بقادرين على هذه المواجهة؛ كان يمنعهم الذُّل والضعف والاستسلام وبيع الحرية التي وهبها الله لهم، والكرامة التي منحهم الله إياها، أما اليوم -يوم الحسرة٠ - فقد سقطت القيم الزائفة، وواجهوا العذاب، فهم يقولونها غير خائفين: {لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ:٣١]، حُلْتُم بيننا وبين الإيمان، زيَّنتم لنا الكفران فتبعناكم فأنتم المجرمون، وبالعذاب أنتم جديرون، وله مستحقون، ويضيق الذين استكبروا بهم ذرعاً، إذ هم في البلاء سواء، ويريد هؤلاء الضعفاء أن يحملوهم تبعة الإغواء الذي صار بهم إلى هذا البلاء، عندئذٍ يردون عليهم ويجيبونهم في ذلة مصحوبة بفظاظة وفحشاء: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} [سبأ:٣٢] الله أكبر! كانوا في الدنيا لا يقيمون لهم وزناً، ولا يأخذون منهم رأياً، ولا يعتبرون لهم وجوداً، ولا يقبلون منهم مخالفة بل حتى مناقشة، أما اليوم -يوم الحسرة- فهم يسألونهم في استنكار الأذلاء: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ} [سبأ:٣٢] زيَّنا لكم الإجرام؟ نعم، لكننا لم نقهركم عليه، فما لكم علينا من سلطان.
أما إنه لو كان الأمر في الدنيا لقبع المستضعفون لا ينبسون ببنت شفة، لكنهم في الآخرة حيث سقطت الهالات الكاذبة، والقيم الزائفة، وتفتحت العيون المغلقة، وظهرت الحقائق المستورة، فلم يسكت المستضعفون ولا هم يخنعون، بل يجابهون من كان لهم يذلون، فيقولون: {بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} [سبأ:٣٣].
مكركم لم يفتر ليلاً ولا نهاراً للصد عن الهدى، تزينون لنا الضلال، وتدعوننا إلى الفساد وتقولون: إنه الحق، ثم تقدحون في الحق، وتزعمون أنه باطل، فما زال مكركم بنا حتى أغويتمونا وفتنتمونا.
ويا عباد الله! إن صور المكر تتنوع وتختلف من عصر لآخر، ففي وقت نزول القرآن كانت تتخذ أشكالاً من الأشعار في المنتديات الجاهلية، تُوَجَّه فيها التهم الباطلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، أو بصد الراغبين عن سماع الحق وتفويته عليهم، أو بإثارة نعرة الآباء والأجداد والتهويل من خطر تركها.
هذا جلُّ ما عند الجاهلية الأولى من مكر الليل والنهار، ووالله! إنه لعظيم، لكن ماذا يساوي ذلك المكر الأول عند مكر الليل والنهار في زماننا الحاضر في أكثر ديار المسلمين اليوم، والذي ينطبق تماماً -بلفظه ومعناه- على المكر الموجود الآن الذي يعمل على مدى الأربع وعشرين ساعة؟! فما يكاد المذياع يفتر من مكره حتى يأتي دور التلفاز، وما يكاد التلفاز يفتر حتى يأتي دور الفيديو، ثم يأتي دور البث المباشر، ثم المجلة الهابطة، فالقصة الخليعة، وهكذا دواليك دواليك، مَكْرُ بالْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
هل يُعذر المسلم في فتح فكره وبيته لمكر الليل والنهار؟
كلا والله لا يعذر؛ لأن المفسدين المتسلطين لن يعذروه بين يديْ الله يوم القيامة بقولهم: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ} [سبأ:٣٢] ويرد هؤلاء المستضعفون: {بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ:٣٣]، ثم يدرك الجميع أن هذا الحوار البائس لا ينفع هؤلاء ولا هؤلاء إلا براءة بعضهم من بعض.
علم كل منهم أنه ظالم لنفسه، مستحق للعذاب، فندم حين لا ينفع الندم، وتمني أن لو كان على الحق والإيمان والهدى سراً: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الَعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ:٣٣].
قطاة غرَّها شَرَك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح
فلا في الليل نالت ما تمنت ولا في الصبح كان لها براح
قُضِيَ الأمر، وانتهى الجدل، وسكت الحوار، وهنا يأتي حادي الغواء، وهاتف الغواية يخطب خطبته الشيطانية القاصمة، يصبها على أوليائه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [إبراهيم:٢٢]-طعنة أليمة نافذة لا يملكون أن يردوها عليه وقد قُضى الأمر وفات الأوان- {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم من سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:٢٢] ثم يؤنبهم على أن أطاعوه {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:٢٢] نفض يده منهم، وهو الذي وعدهم ومنَّاهم ووسوس لهم، وأما الساعة فلن يلبيهم إن صرخوا، ولن ينجدوه إن صرخ، {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:٢٢] فيا للحسرة والندم.
الحسرة على أعمال محدثة وعبادات لم يأذن الله بها ولم يُتَّبع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحسب أهلها أنهم يحسنون صنعاً، لكنها تضيع في وقت الحاجة الماسة إليها، فهم الأخسرون أعمالاً، وساءوا أحوالاً، أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، أو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه.
يا أيها اللاهي الذي افترش الهوى وبكل معنىً للضلال تدثَّرَ
إن كنت ذا عقل ففكر بُرهة ما خاب ذو عقل إذا ما فكَّرَ