[صورة من معاناة الصديق في سبيل الدين]
الصورة الأولى: قال الصديق: لا إله إلا الله، وقد أدرك ماذا تعني لا إله إلا الله، علم أنها تعني أن يسلم النفس كاملة لله سبحانه وتعالى، اسمع إلى ابن كثير في سيرته يوم يقول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ألح أبو بكر على الرسول صلى الله عليه وسلم في الظهور وعدم الاختفاء، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! إنا قليل، فلم يزل أبو بكر يلح على إظهار النور حتى وافقه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وظهر رسول الله والمسلمون، وتفرقوا في نواحي المسجد، وقام أبو بكر خطيباً في الناس -فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- ثار عليه المشركون، وثاروا على المسلمين معه، فضربوا أبا بكر ضرباً شديداً، حتى إن عتبة دنا منه فجعل يضرب وجهه بنعلين مسقوفتين، ثم يجثو على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه رضي الله عنه وأرضاه.
وجاء بنو تيم قوم أبي بكر، وأجلوا عنه المشركين، وقالوا: لئن مات لنقتلن عتبة ثأراً لـ أبي بكر، أما أبو بكر فمغمى عليه لا يتكلم بكلمة، رجع إليه قومه ليكلموه فما تكلم إلا آخر النهار، ترى بما تكلم! قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! همه الرسول والرسالة، سبه قومه وعذلوه إذ هم مشركون ثم تركوه.
أما أمه فقامت تلح عليه أن يطعم شيئاً وهو يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتقول: والله يا بني ما لي من علم بصحابك، قال: اذهبي إلى أم جميل فاطمة بنت الخطاب فسليها، خرجت إليها، فقالت: إن ابني يسأل عن محمد، قالت أم جميل: أتحبين أن اذهب معك إلى ابنك -تريد سرية الأمر لئلا تفتن هي به كما فتن هو وغيره- قالت: نعم.
فمضت إلى أبي بكر فوجدته صريعاً، فقالت: والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم.
رحمهم الله ورضي عنهم؛ لقد كانوا يأوون إلى ركن شديد، فيقول أبو بكر: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت أم جميل: هذه أمك تسمع -ولم تكن آمنت بعد، وهذا وعي عظيم من فاطمة رضي الله عنها على سرية الدعوة فلا تتكلم أمام مشركة، حتى ولو كانت أم أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه- قال: لا عليك يا فاطمة! قالت: إنه سالم صالح بحمد الله، قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن أبي الأرقم، قال: فإن لله علي ألا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أحب رسول الله حباً يفوق حب النفس والمال والأهل والولد، وهكذا يجب أن يكون المؤمنون، انتظروا حتى هدأت الرجل وسكن الناس، ثم خرجت أمه وأم جميل يتكأ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قبله، وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة لما يرى منه، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي ليس بي من بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي يا رسول الله، ثم قال: يا رسول الله! هذه أمي برت بولدها وأنت مبارك، فادع الله لها وادعها إلى الله أن يستنقذها من النار، فدعاها ودعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهدت أن لا إله إلا الله.
همه رضي الله عنه أن يستنقذ الناس من النار، والأقربون أولى بالمعروف، والأم أقرب إنسان إليه، فما كان منه إلا أن دعاها فأسلمت، وكان من أعظم البر بأمه أن يدعوها إلى الله جل وعلا.
أرأيتم لهذا الموقف يا عباد الله! والله لموقف أبي بكر هذا مع رسول الله في سبيل الحق ساعة، أفضل من عبادة أحدنا عمره كله، يقول بكر بن عبد الله المزني بإسناد صحيح: إن أبا بكر لم يفضل الناس بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما فضلهم بشيء وقر في قلبه، إنه الإيمان وكفى به هادياً ودليلاً إلى القلوب، وحادياً إلى جنات النعيم.
بشرها دليلها وقالا غداً ترين الطلح والجبالا