[مقاطعة الصحابة للذين خلفوا]
وأُعلِنَت المقاطعة؛ بل أُعلِنت التربية المحمدية؛ وأعلن الهجر والتأديب من مربي البشرية صلى الله عليه وسلم.
يقول كعب: {فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثةَ من بين كل من تخلَّف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض؛ فما هي بالأرض التي أعرف، لبثنا على ذلك خمسين ليلة، أما صاحبايَ فاستكانا، وقعدا في بيوتهما يبكيان.
وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف الأسواق -فلا والله ما يكلمني أحد- وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلِّم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فلا والله لا أدري هل حرَّكَ شفتيْه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه صلى الله عليه وسلم وأسارقُه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبل إليَّ، وإذا الْتفتُّ نحوه أعرض عني}.
طالت على كعب الجفوة، وعظم الابتلاء، وضاقت عليه المسالك، فقصد ابن عم له اسمه أبو قتادة في بستان له، يقول: {وتسوَّرْت جدار حائط أبي قتادة -وهو من أحب الناس إليَّ- فسلمت عليه، فوالله ما رد عليّ السلام.
قال: قلت: يا أبا قتادة أنشدُك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، قال: فكررت المناشدة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فقال: الله ورسوله أعلم.
عندها فاضت عيناي، وولَّيت حتى تسورْتُ الجدار، وجعلت أهيم على وجهي حتى دخلت السوق.
وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذ بنبطي من أنباط أهل الشام يسأل أهل السوق: من يدل على كعب؟ فطفق الناس يشيرون له إليَّ حتى جاءني فدفع إليَّ كتاباً من مَلِك غسَّان؛ فإذا فيه: قد بلغني أن صاحبك قد جَفَاك، ولم يجعلك الله بدار هوان؛ فَالْحَقْ بنا نُواسِك.
قال: فلما قرأتُها قلت: هذا أيضاً والله من البلاء والامتحان والاختبار، فقصدت التَّنور، فأوقدته بها}.
يا أيها المسلمون: هذا هو ديدن أعداء الله في الغابر والحاضر، يتحسسون الأنباء ويترصدون المداخل، وكم من أقدام في مثل هذا زلَّت، وكم من أرجل في مثل هذه الأوحال قد انزلقت.
أما كعب فَيَمَّمَ بها التنور، فأوقده بها.
ولا يزال البلاء به -رضيَ الله عنه- حتى جاءه رسول من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره باعتزال امرأته.
يقول كعب: {فقلت: أُطلِّقُها أم ماذا أفعل؟ قال: لا.
بل اعتزلها فلا تقربها.
فقلت لها: الْحقي بأَهلِك حتى يقضي الله في هذا الأمر}.