للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حمل النفس على الجد محمود العواقب]

النَفْس.

ما النَفْس؟!

إذا عودتها البَطالة اعتادت، وإنْ عودَّتها العمل والجد والسهر سهرت وجدَّت وعملت.

وقل مَنْ جَدَّ في أمر تطلبه واستصحب الصَّبر إلا فاز بالظَّفرِ

ولله الهمم ما أعجب شأنها! ما أعجبه لمتأمل! وما أشد تفاوتها! همة متعلقة بالعرش، وهمة حائمة حول الأنتان والحُش، وبتفاوت الهمم تتفاوت الأعمال والدرجات.

ومَا كلُّ من جَر العَبَاءة سيداً يُخْشى ولا كلُّ المَظاهر تبهرُ

إني لأسأل: أين تعب عالم دَرس العلم خمسين سنة؟!

ذهب التعب وحصل العلم.

وأين لذة البطال خمسين سنة؟!

ذهبت الراحة وبقي الندم.

اتباع الهوى، وما اتباع الهوى؟!

يُغْلق على العبد أبواب التوفيق، ويفتح عليه أبواب الخذلان: {وأمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:٤٠ - ٤١] وأما من أطاع الهوى فوالله لقد هوى، ولا يزال الهوى يُمسك بتلابيب النفس، ويملك عليها أقطارها، حتى يصير لها إلهاً، تعطيه معنى الطاعة والعبادة، وتصير له عبداً تعطيه ما هو أكثر من الطاعة: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ} [الجاثية:٢٣].

أحبتي في الله: النَّفْس خلق عجيب، آية من آيات الله، بطبيعتها تميل إلى الأسهل وإلى الأدنى، كالماء الجاري، يهبط الأودية والشعاب والمنخفضات، ورفعه يحتاج لهمة وكلفة، وصبر وعناء، ومشقة ومجاهدة؛ كذلك النفس تحتاج لذلك كله؛ لترقى وتسمو وتحلِّق، والبحرَ تقصد.

يقول ابن الجوزي عليه رحمة الله: لو أُمر الناس بالصبر على الجوع لصبروا، ولو نُهوا عن تفتيت البعر لرغبوا فيه، يقولون: ما مُنعنا منه إلا لشيء، والواقع يشهد:

وأحَبُ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنعا

لماذا؟ لأن النفس محصورة مسجونة في البدن، فلا تحب أن تسجن وتحصر أخرى بالتكاليف في الأوامر والنواهي: يا نفس! افعلي، ويا نفس! لا تفعلي، هذا حرام وهذا حلال وهكذا.

ولذلك لو قعد الإنسان في بيته شهراً باختياره ما صَعُب عليه ذلك، لكن لو قال له أبوه: لا تخرج هذا اليوم من بيتك، وقَفَلَ عليه باب غرفته لثقل عليه ذلك اليوم، وكأنه شهر، لماذا؟

لأن النفس تحب التحرر من القيود، والانطلاق والتفلت، فتراها تستلذ الحرام والشهوات، همها هواها، لكن صاحب الهمة العاقل الحازم يمنعها هواها، ويداريها، فيأخذها تارة بالعزائم، وتارة بالرخص، ويستعيذ بالله من شرها، ويدعو بتزكيتها، لتزكو وتتربى، وتسمو وتترقى.

هي من خلق الله عز وجل، والله أعلم بخلقه سبحانه وبحمده.

يُقْسم الله في كتابه أحد عشر قسماً متتالية، قسماً يتلوه قسم، ولله أن يُقْسم بما شاء من مخلوقاته -سبحانه وبحمده- يُقْسم على فلاح من زكاها، وخيبة من دساها، فيقول سبحانه: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:١ - ٨] أين جواب القسم؟

{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس:٩ - ١٠].

وتزكيتها لا تكون إلا بهمة عليّة، يعقبها عمل خالص صالح صواب.