[استراحة]
الصفحة العاشرة: استراحة:
في السير للذهبي أن همام بن منبه قعد في مجلس ابن الزبير، وكان هناك رجل من نجران يعظمونه اسمه حنش، كبير السن، وليس له لحية، فقال رجل قرشي في مجلس لـ ابن الزبير لـ همام: من أين أنت؟ قال همام: من أهل اليمن.
قال: ما فعلت عجوزكم؟ يعني كبير السن حنش؟ قال -واسمعوا إلى القول-: عجوزنا أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، وعجوزكم يا قريش حمَّالة الحطب، فبهت القرشي، وقال ابن الزبير: أتدري من كلَّمت؟ إنه همام، وله من اسمه نصيب.
وروي أن أبا حنيفة رحمه الله كان عند الخليفة العباسي أبي جعفر ومعه الربيع حاجبه، وكان بين الربيع وبين أبي حنيفة بعض سوء فهم، فقال الربيع محاولاً الإيقاع بين أبي حنيفة وأبي جعفر: يا أمير المؤمنين! إن هذا يخالف جدك ابن عباس فلا يجيز الاستثناء في اليمين إلا متصلاً باليمين، فلو استثنى بعد يوم لم يجز له ذلك، فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين! إن الربيع يزعم أن ليس لك في رقاب الناس بيعة، فقال المنصور: كيف؟
قال أبو حنيفة: إنهم يحلفون لك على البيعة، ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل أيمانهم.
فضحك المنصور، وقال للربيع: لا تعرض لأبي حنيفة، وانقلب السحر -كما يقال- على الساحر.
وفي السير للذهبي: أرسل الأمير عيسى بن موسى إلى الإمام الأعمش بألف درهم وصحيفة ليكتب له فيها الحديث، فكتب فيها الأعمش: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١]، ثم أرسل بها إليه، فلما وصلت إلى عيسى رفعها ونظر فيها وقال: يابن الفاعلة؛ ظننت أني لا أحسن كتاب الله؟! فرد عليه الأعمش قال: وظننت أني أبيع الحديث؟!
وفي السير للذهبي -أيضاً- أنه أتي بـ عبد الرحمن بن عائذ إلى الحجاج، فقال له الحجاج: كيف أصبحت؟ قال: لا كما يريد الله، ولا كما يريد الشيطان، ولا كما أريد، قال: ويحك ما تقول؟
قال: نعم.
يريد الله أن أكون عابداً زاهداً، وأنا أعلم أني لست كذلك، ويريد الشيطان أن أكون فاسقاً مارقاً، وما أنا بذاك، وأريد أن أكون مخلىً في بيتي، آمنا في أهلي، ولم تتركني يا حجاج، فقال الحجاج: أدبٌ عراقي، ومولدٌ شامي، وجيراننا إذ كنا بـ الطائف، خلُّوا عنه.
فخلوا عنه.
وفي السير للذهبي -أيضاً- أن سليمان بن عبد الملك استصغر أبا العلاء؛ مولى من موالي الحجاج؛ وكان مشوهاً ودميماً.
فقال هذا المولى: إنك رأيتني والأمور مدبرة عني، ولو رأيتني وهي مقبلة لاستعظمت ما احتقرت، فقال سليمان: قاتلك الله، ما أسدَّ عقلك! أَتُرى الحجاج يهوي بعد في جهنم أم بلغ قعرها؟ قال: لا تقل ذاك، فإنه يحشر مع من ولاَّه، والذي ولاَّه أبو سليمان، فقال: مثل هذا فليُصْطَنَع.
ودخل أعرابي على سليمان بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين! إني مكلِّمك بكلام فاحتمله وإن كرهته؛ فإن وراءه ما تحب إن قبلته.
فقال: يا أعرابي -وكان عاقلاً- إنا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه، ولا نأمن غشه، فكيف بمن نأمن غشه، ونرجو نصحه؟
فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين! لقد تكنَّفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياهم بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، حرب للآخرة وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله؛ فإنهم لم يألوا في الأمانة تضييعاً، وفي الأمة خَسْفاً وعَسْفاً، وأنت مسئول عما اجترحوا، وليسوا بمسئولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك؛ فإن أعظم الناس غبْناً من باع آخرته بدنيا غيره.
فقال سليمان: يا أعرابي! أما إنك سللت لسانك وهو أقطع من سيفك،
قال: أجل يا أمير المؤمنين! ولكن لك لا عليك.
والدين النصيحة، والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششه، والنصيحة لك لا عليك.