[قصة سلمان الفارسي في طلب الهداية على الحقيقة وما فيها من عبر]
أي أخي! هيهات للسيل -أعني سيل الهداية على الحقيقة- هيهات للسيل إذا أتى أن يقف قبل أن يمد مده ويبلغ حده.
ومن يسد طريق العارض الهطل؟!
أرأيت سلمان ابن الإسلام، سابق الفرس، المنارة الشامخة في طلب الهداية، من تشتاق له الجنة، لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله مثله، قال فيه علي رضي الله عنه بسند رجاله ثقات: [[أدرك العلم الأول والعلم الآخر، بحرٌ لا يدرك قعره، وهو منا أهل البيت]] طلب الهداية في مظانها، فوفقه الله ليصحب رسوله صلى الله عليه وسلم، هبت رياح الهداية في بيداء الأكوان، ونجم الخير، وهدأت الريح، فإذا أبو طالب في لجة الهلاك بلا أمان، وسلمان على ساحل السلامة في أمان، والوليد بن المغيرة يقدم قومه في التيه في تيه، وصهيب قد قدم بقافلة الروم في غير ما كبرٍ ولا تيه، والنجاشي في أرض الحبشة يعج بلبيك اللهم لبيك، وبلال على ظهر الكعبة يصدح بالأذان ليسمع الآذان ويوقظ الجنان، لما قضي في القدم سلامة سلمان، أقبل يناظر أباه في دينٍ أباه، فلما علاه بالحجة لم يعرف أبوه جواباً إلا القيد، وهذا جوابٌ مرذولٌ يتداوله أهل الباطل من يوم: {حَرِّقُوهُ} [الإنبياء:٦٨] ويوم {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:٢٩] فنزل بـ سلمان ضيفُ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} [محمد:٣١]، فنال بإكرامه مرتبة: {سلمان منا}.
سمع أن ركباً على نية السفر، فسرق نفسه من حرز أبيه وما قطع، ركب راحلة العزم يرجو إدراك السعادة والسيادة، وقف نفسه على خدمة الأدلاء وقوف الأذلاء، ليكون من الأجلاء السعداء وكان، فلما أحسَّ الرهبان بانقطاع دولتهم، سلموا إليه أعلام الإعلان على نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، وقالوا: إن زمانه قد أظل، فاحذر أن تضل، وإنه يخرج بأرض العرب، ثم يهاجر إلى أرض بين حرتين.
فلو رأيتموه قد فلَّ الفلا والدليل شوقه، وخلى الوطن فلم يزعجه تطلعه وتوقه، ورحل مع رفقةٍ لم يرفقوا به، فشروه بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودة، ابتاعه يهوديٌ بـ المدينة، فلما رأى الحرتين، توقد حرُّ شوقه، وما علم المنزل بلهفة النازل:
أيدري الربع أيُّ دمٍ أراقا وأيُّ قلوب هذا الركب شاقا
لنا ولأهله أبداً قلوب تلاقي في جسوم ما تلاقى
فبينا هو يكابد ساعات الانتظار، قدم البشير بقدوم البشير النذير والسراج المنير؛ عليه صلوات الحكيم الخبير، وسلمان في رأس نخلة، كاد الفرح أن يلقيه لولا أن الحزم أمسكه، كما جرى يوم: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص:١٠] ثم عجل النزول لتلقي ركب السيارة، ولسان حاله يقول:
خليلي من نجدٍ قفا بي على الربى فقد هبَّ من تلك الديار نسيمُ
فصاح به مالكه: ما لك ولهذا؟ انصرف إلى شغلك، فأجاب بلسان حاله:
كيف انصرافي ولي في داركم شغلُ
فأخذ مالكه يضربه، فأخذ لسانه يترنم لو سمع الأطروش الأصم:
خليلي لا والله ما أنا منكما إذا علمٌ من آل ليلى بدا ليا
فلما لقي الرسول صلوات الله وسلامه على الرسول، عرض نسخة الرهبان بكتاب الأصل فوافق وطابق، فإلى الهداية سيق فسابق، حرر نفسه من هواها، فانتصرت يوم زكاها وحماها، ضعفت الأخلاط، فخفت الأغلاط، وتجدد النشاط، وهدي سلمان إلى سواء الصراط، ما آل كبلال،، وما حقيقةٌ كخيال
يا محمد! صلوات الله وسلامه على نبينا محمد، أنت تريد أبا طالب، والله يريد سلمان، أبو طالب إذا سئل عن اسمه قال: عبد مناف، وإذا انتسب فللآباء، وإذا ذكر المال عد الإبل، وسلمان إن سئل عن اسمه، قال: عبد الله، وعن نسبه، قال: ابن الإسلام، وعن لباسه، قال: التواضع، وعن طعامه، قال: الجوع، وعن شرابه، قال: الدموع، وعن وساده، قال: السهر، وعن فخره، قال: {سلمان منا} وعن قصده، قال: يريدون وجهه.
قصدنا الله حجتنا يوم يأتي الناس بالحججِ
نورٌ مسخ الظلام، وهدىً محق الضلال، وحقٌ محق الباطل.
طلع الصباح فأطفئ القنديلا
ما حقيقةٌ كخيال
الهداية على الحقيقة نورٌ من الله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:٣٥] ومنةٌ وهبةٌ من الله: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:٢٥] ورحمةٌ من الله {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:٥٦].
رحمة الله لا تعزُّ على طالبٍ في أي مكان ولا في أي حال، كما يقول صاحب الظلال في تصرف: وجدها إبراهيم عليه السلام في النار: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:٦٩] ووجدها يوسف عليه السلام في الجب: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:١٥] ثم وجدها أخرى في السجن: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:٥٤ - ٥٦] ووجدها موسى عليه السلام في اليم وهو طفلٌ رضيعٌ مجردٌ من كل قوة ومن كل حراك: {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:٧] ثم وجدها أخرى في قصر فرعون وهو عدوٌ له متربصٌ به، يبحث عنه ليقتله، فإذا به يغذوه {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص: ٩] وقد ألقى الله عليه المحبة، فما رآه أحدٌ إلا أحبه: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:٣٩] ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في الظلمات يوم نادى: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:٨٧ - ٨٨] وجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور، فقال بعضهم لبعض: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} [الكهف:١٦] وجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار، والقوم يتعقبونهم ويقصون الآثار: {ما ظنك باثنين الله ثالثهما قال: لا تحزن إن الله معنا} وجدها كل من أوى إلى الله يائساً من كل ما سواه، منقطعاً عن كل شبهةٍ في قوة، ومظنةٍ في رحمة، قاصداً باب الله وحده:
إلهي وجهت وجهي إليك فحقق منايا وأحلاميا
وهب لي من العزم ما أرتجي وحقق بفضلك آماليا
وثبت فؤادي في حاضري وتمم قوابل أياميا
الهداية على الحقيقة نورٌ وحبور وسرور، والنور لا يحل إلا في قلبٍ صحيحٍ سليمٍ من الهوى والحقد والغل والحسد كما يقول الحميدي، أما القلب المريض، فإنه محجوبٌ عن ذلك النور، ولو كان الفكر في غاية الذكاء والفهم والعلم، فهو أحير من ضب؛ إذا بعد عن جحره خبن، وأهل الصحراء أعلم بذلك.
هذه حقيقة عارية، من أنكرها فهو ساعٍ على جسر الخيال، مستبدل بالماء الآل، وما حقيقةٌ كخيال.