[إطلاق المنافقين للشائعات]
وإنما تقول عائشة: كنت أسمعه يسبح الله، وأتى بها في الظهيرة وهي على بعيره.
فأما الذين في قلوبهم إيمان فاطمأنوا إلى موعود الله، وهم في كل زمان يطمئنون لذلك، وأما الذين في قلوبهم زغل وحقد وغشش على الإسلام وعلى رسول الإسلام، وعلى دعاة الإسلام، فأخذوها فرصة لا تتعوض، قام كبيرهم الذي علمهم الخبث - ابن أبي - بين المنافقين يقول لهم: لماذا تأخرت؟ لماذا أتت مع هذا الأجنبي؟ لم ركبت على بعيره؟ لم تركها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمع بهذا الكلام، هو واثق من زوجه أنها أطهر من حمام الحرم، وأنقى من ماء الغمام، قريشية من القرشيات:
حور حرائر ما هممن بريبة كظباء مكة صيدهن حرام
متحجبات في الخدور أوانس ويصدهن عن الخنا الإسلام
انطلق الجيش إلى المدينة، ولا زال المنافقون يُشَّهرون ويلصقون هذه التهمة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبفراشه الطاهر.
لما وصل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سمع الخبر، وأتاه النبأ العظيم، ضُرب في صميم قلبه، ضرب في قواعد دعوته، ضرب في صميم رسالته الخالدة، أُصيب في شرفه وفى بيته ومروءته، فلما أتاه الخبر عن طريق رجل من المسلمين، أتاه وقال: يا رسول الله! إن المنافقين يقولون كذا وكذا، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:١٨] تحمل صلى الله عليه وسلم هذه اللطمة التي لم يصب بمثلها.
ذهب إلى بيته وسلَّم على زوجه وهي مريضة في فراشها، بعد السفر أصابتها حمى ولم تدرِ أنها متهمة، وأن المنافقين قد ألصقوا بها أعظم فرية، هي مريضة على الفراش، فسلَّم عليها صلى الله عليه وسلم.
قالت عائشة: ولم أر منه ذاك الحنان والعطف الذي كنت أراه منه كلما مرضت، قالت: فاستأذنته لأمرض -في بيت أبي في بيت خليفة الإسلام، في بيت المجاهد الأول، في بيت الرجل الأول بعد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم- فأذن لها صلى الله عليه وسلم.
قالت: فأخذني النساء إلى بيت أبي، وإذا بأبيها الآخر يعلم بالنبأ وينزل عليه كالصاعقة، ويأتيه الخبر فيصاب ويبكي ويقول: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:١٨] ويأتي الخبر أمها فتصاب في قلبها، وتنتشر الفرية في المدينة وتسري سريان النار في الهشيم، ويشارك كثير من الصحابة رسول الله في هذا المصاب فيحزنوا لحزنه ويتأثروا لتأثره:
إن أولى الموالي من تواليه عند السرور كما والاك في الحزن
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن
قالت عائشة: ولم أعلم الخبر، ولم أدر ما السر، قالت: فلما شفيت من مرضي خرجت مع نساء في ضاحية من ضواحي المدينة وكان معنا امرأة اسمها أم مسطح صالحة من الصالحات، وولدها صالح من الصالحين من أهل بدر، لكنه وقع في هذه الريبة ونشر الخبر، وساعد في نشر التهمة كما يفعل بعض الناس الآن، فلما أصبحنا في الصحراء عثرت هذه المرأة الصالحة فقالت: تعس مسطح -والعرب تدعو على عدوها بالتعاسة إذا أصيبت- قالت عائشة: فقلت لها: كيف تدعين على ابنك وهو من الصالحين من أهل بدر؟ قالت: إنك ما علمت ماذا قال وماذا فعل.
قالت عائشة: وماذا قال؟ قالت: اتهمك هو وأمثاله في عرضك، وقالوا: إنك ارتكبت الفاحشة مع صفوان.
لا إله إلا الله! قالت عائشة: فسقطت على وجهي مغشياً عليّ من البكاء، رفعها النساء إلى فراشها في بيت أبيها، وأما رسول الله فبقي شهراً كاملاً لا ينزل عليه الوحي، يتلمس متى يسمع النداء العلوي ليشفي غليله في هذه المشكلة، ما عنده دلائل ولا براهين، لا يعلم الغيب، اضطربت عنده الأمور صلى الله عليه وسلم، يثق في زوجه لكنه بشر.