الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، ولا حزن إلا ما جعلته حزناً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعوة لا تسمع، اللهم إنا نعوذ بك من هؤلاء الأربع، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، وأنت على كل شيء قدير.
أيها الإخوة في الله! إن موضوعنا في هذه الليلة حول أخبار ومنح ووصايا من أخبار العلماء وكلماتهم ومُلَحِهم وآثارهم، ولهذا الموضوع أهمية، فإن كلمات العلماء وآثارهم ومُلَحِهم ووصاياهم وأقوالهم نابعةٌ من مشكاة النبوة التي ينهلون منها، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال:{إن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر} وقال: {إن العلماء ورثة الأنبياء} فورثوا عنهم أقوالهم وأقوال الله عز وجل، ولذلك أصطبغت حياتهم وأقوالهم ومعيشتهم وكانت وصاياهم متأثرة أشد التأثر بما ارتووا منه؛ ألا وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أخص بكلامي هذا العلماء الربانيين الذين قال الله سبحانه وتعالى:{بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}[آل عمران:٧٩] الذين يعلمون كتاب الله حفظاً، وفهماً، وتدبراً، وعملاً، ودعوةً وصبراً على الأذى فيه، والذين يعلمون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على النسق المذكور في كتاب الله؛ حفظاً، وفهماً، وتدبراً وعملاً، ودعوةً وصبراً على الأذى في سبيل ذلك كله، فإن الله عز وجل أمرنا بأن نكون كذلك، فقال الله عز وجل:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}[آل عمران:٧٩].
يقول ابن عباس رضي الله عنهما:[[لا يكون العالم ربانياً حتى يعلم ويعمل ويدعو ويصبر على الأذى]] ونقل عنه رضي الله عنه وأرضاه: [[العلماء الربانيون هم الذين يربون الناس على صغار العلم قبل كباره]] يعني: يأخذون الناس بالتدرج خطوة خطوة، لا يقفزون بهم إلى أمور كبار لا تدركها عقولهم، فقد روى البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه:{ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة} ونقل أيضاً في الصحيح: {خاطبوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله}.
فهؤلاء العلماء الربانيون الذين أفنوا أعمارهم في تعلم كتاب الله، وفي تعلم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا بحق كما قال الله عز وجل:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[الزمر:٩].
قال الإمام ابن الجوزي في زاد المسير: أشار جل وعلا بقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[الزمر:٩]، بعد قوله:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}[الزمر:٩] أشار بهذا إلى أن الذين يعلمون حقاً هم الذين اتصفوا بهذه الصفة: {قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}[الزمر:٩].
ونقل عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال:[[يعرف حامل القرآن بليله إذا الناس راقدون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.