[من آثار الإيمان: الثبات بكل صوره]
من آثار الإيمان الثبات بكل صوره ومعانيه عند الشدائد والمحن والمصائب، الثبات يوم تمتحن الأمة بأعدائها، الثبات للداعي في دعوته، والثبات للمصاب عند مصيبته، والثبات للمريض عند مرضه حتى الممات، الثبات أمام الشهوات، الثبات أمام الشبهات، الثبات على الطاعات، الثبات العام، وكفى بالثبات!
هاهو صلى الله عليه وسلم يحمل الإيمان في صف، والبشرية كلها في صف مضادٍ فانتصر بالإيمان، صدع بالحق لا يرده عنه رادٌ ولا يصده صادٌ، فوقعت قريش منه في أمر عظيم، فإذا بأحد صناديدها يقول: يا معشر قريش! لقد وقعتم من محمد في أمر عظيم، لقد كان غلاماً حَدَثاً، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم الشيب في صدغيه، قلتم: شاعر، ما هو والله بشاعر، قلتم: ساحر، ما هو والله بساحر، قلتم: كاهن، ما هو والله بكاهن.
يا معشر قريش! إنكم قد نزل بكم أمرٌ عظيم فاجتمعوا له.
فاجتمع -كبراؤها- صناديد الشرك وسَدَنَة الوثنية، الممسكون بحُجَز النار ليقذفوا في النار، اجتمعوا يقود مؤتمرهم إبليس، نعوذ بالله منه.
قالوا في اجتماعهم: انظروا رجلاً منكم هو أعلمكم بالسحر والشعر والكهانة فليذهب إلى محمد، قالوا: ما نرى مثل أبي الوليد عتبة بن ربيعة.
فذهب عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان بليغاً، وفصيحاً، جمع مقالاتهم في مقالة واحدة، وقال: يا محمد! أنت خير أم أبوك؟ فسكت صلى الله عليه وسلم قال: أنت خير أم جدُّك عبد المطلب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كانوا خيراً منك فقد عبدوا ما عبدنا، وإن كنت خيراً منهم فقل.
ثم بدأ في الإغراءات التي لا يثبت أمامها إلا المؤمنون: يا محمد! إن كان بك المُلْك ملَّكْناك، وإن كان بك المال أعطيناك من أموالنا ما تشاء، وإن كان بك الباءة وحب النساء زوَّجناك ما تشاء من بناتنا.
يا محمد! ما رأينا شخصاً -قط- أشْأَمَ على قومه منك، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، فيثور بعضنا على بعض، يا محمد! أخبرنا ما تريد؟
فقال صلى الله عليه وسلم: {أفرغت يا أبا الوليد؟} ويا للأدب منه صلى الله عليه وسلم! يا للأدب يوم تركه حتى انتهى من كلامه، ثم شرع صلى الله عليه وسلم يرتِّل آيات الله البينات، تسقط كالقذائف على دماغ هذا الرجل، شرع يقرأ من أوائل سورة فصِّلت: {حمَ * تَنزِيلٌ منَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:١ - ٥] سمع كلاماً ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، ألقى هذا الكافر يديه خلف ظهره، وأخذته رِعْدة مشدوهاً مبهوراً بما يسمع، يسمع القرآن من فَمِ من أنزل عليه القرآن.
حتى إذا بلغ قول الله جل وعلا: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:١٣] فخاف وارتعد وأخذته الرعشة وأخذ يديه الاثنتين وجمعها ووضعها على فم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقال: أنشدك الله والرحم إلا صمت! أنشدك الله والرحم إلا صمت!
خرج مذعوراً خائفاً راجعاً إلى قومه بغير الوجه الذي ذهب به من عندهم، فلما رأوه قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: لقد سمعت من محمد حديثاً ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، ورب هذه البنية -يعني الكعبة- ما عقلت من حديثه إلا قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:١٣]، فوضعت يديَّ على فمه خوفاً أن ينزل بكم العذاب، ولقد علمتم أن محمداً إذا حدث حديثاً لم يكذب.
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:١٤] جحدوا بذلك.
هل استقاموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل انتفعوا بالآيات؟
لم ينتفعوا بذلك، فهل سلم منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي-؟ لا والله! بل ناصبوه العداء كأشد ما يكون، وأروه الأذى كأقذع ما يكون الأذى، وضعوا سلى الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم، ثم لم يجد له مُعِيناً بعد الله إلا بنيته الصغيرة فاطمة رضي الله عنها وأرضاها.
ثم ليس هذا فحسب، بل أخرجوه من مكة، ودموعه على وجنتيه صلى الله عليه وسلم وهو يقول: {والله! إنك لأحب البقاع إلىَّ، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت}.
ومع ذلك فقد ثبت صلى الله عليه وسلم بالإيمان، فنصره الله، ونصر دينه، وأعلى كلمته، فما من مئذنة الآن إلاّ وهي تقول في اليوم خمس مرات: أشهد أن محمداً رسول الله؛ صلى الله عليه وسلم.
ويأتي صحابته رضوان الله عليهم ومَن بعدهم ليثبتوا بالإيمان ثبات الجبال الشُّم الراسية.
هاهو خالد بن الوليد أبو سليمان رضوان الله عليه يقارع الروم في أرضهم -كما روى ابن كثير - حتى كانت الدائرة على الروم، فما كان منهم إلاّ أن فرُّوا وتحصنوا في مدينة قنسرين؛ مدينة من مدنهم محصنة بالجدران المنيعة والأبواب الثقيلة التي لا يقتحمها مقتحم، فماذا كان من خالد؟ حاول اقتحامها فما استطاع، حاول أن يحاصرها حصاراً عاماً عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً فما أفلح، استعصت عليه، فما كان منه إلا أن دوَّن رسالة، قال في هذه الرسالة بثبات المؤمن الذي يثق بنصر الله جل وعلا: [[من خالد بن الوليد أبي سليمان إلى قائد الروم في بلدة قنسرين.
أما بعد:
فأين تذهبون منا؟ والذي نفس خالد بيده! لو صعدتم إلى السحب لأصْعَدَنا الله إليكم، أو لأمْطَركُم علينا]] كلمات الثقة بنصر الله عز وجل، كلمات الثبات الذي لا يكون إلا للمؤمنين، تخرج كالصواعق على أعداء الله، وكالبلسم على أولياء الله.
وصلت الرسالة إلى ذلك العلج، فقرأها وارتعدت فرائصه، وسقطت من بين يديه، وما كان منه إلا أن قال: افتحوا أبواب المدينة، واخرجوا مستسلمين، لا طاقة لنا بهؤلاء.
ما الذي ثبَّت خالداً إلا الإيمان، ما الذي ثبت جند الله إلا الإيمان يوم أخذوه، وأخذوه بحق وبجدية.
ليس هذا فحسب، وليس صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب؛ فها هو ابن تيمية عليه رحمة الله ذلكم الداعية الذي قارع الطغيان ودمغ البدعة والمبتدعين، فكثر الأعداء فما وهن وما استكان، لسان حاله:
فكيف تخاف من زيد وعمرو وعند الله رزقك والقضاء
ليلقى في السجن فيثبت بإيمانه الراسخ، يقفل السجان عليه الباب فيقول: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:١٣].
ينظر إلى السجناء ويقول: ما يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، إنها جنة الإيمان واليقين.
يمرض فيثبت ثبات المؤمن في أوقات الشدائد، دخلوا عليه وهو مريض وما اشتكى، فيقولون له: ماذا تشتكي يا إمام؟ قال:
تموت النفوس بأوصابها ولم يدرِ عُوَّادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي أذاها إلى غير أحبابها
ثم يختم المصحف في السجن بضعاً وثمانين مرة، حتى إذا بلغ قول الله جل وعلا: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر:٥٤ - ٥٥] لقي الله فرحمه الله، وجمعنا به وبالصالحين من أمة محمد بن عبد الله صلَّى وسلم عليه الله.
الثبات للمريض في مرضه:
- يروي ابن حجر في الإصابة أن عمران بن حصين رضى الله عنه أصابه مرض أقعده ثلاثين سنة، وما اشتكى حتى إلى أهله، فكانت الملائكة تصافحه وقت السحر.
- أبي بن كعب رضي الله عنه سيد القراء يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: [[أإنا لنؤجر في الأمراض والحمى والمصائب؟]].
فيقول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه: {والذي نفسي بيده! لا يصيب المؤمن همٌّ ولا غمٌّ ولا نَصَب ولا وَصَب ولا بلاء حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها خطاياه} فقال: [[اللهم إني أسألك حمى لا تبعدني عن صلاة ولا حج ولا جهاد]]، فمكثت به ثلاثين سنة حتى ابيض شعر رأسه ولحيته، وكان لا يجلس بجانبه أحد من شدة فيح الحمى، ليلقى الله ثابتاً بالإيمان، وهكذا يفعل الإيمان.
ولا يكون ذلك إلا للمؤمنين، يقول الحافظ أبو نعيم: لما توفي ذر بن عمر الهمداني، جاء أبوه فوجده قد مات، فوجد أهل بيته يبكون، فقال: ما بكم؟ قالوا: مات ذر، فقال: الحمد لله، والله ما ظُلمنا ولا قُهرنا ولا ذُهب لنا بحق، وما أُريد غيرنا بما حصل لـ ذر، ومالنا على الله من مأثم.
ثم غسَّله وكفَّنه، وذهب ليصلي مع المصلين، ثم ذهب به إلي المقبرة، ولما وضعه في القبر قال: رحمك الله يا بني، قد كنت بي باراً، وكنت لك راحماً، ومالي إليك من وحشة ولا إلى أحد بعد الله فاقة، والله يا ذر! ما ذهبت لنا بعز، وما أبقيت علينا من ذل، ولقد شغلني -والله- الحزن لك عن الحزن عليك، يا ذر! لولا هول يوم المحشر لتمنيت أني صِرْت إلى ما إليه صرت، يا ليت شعري! ماذا قيل لك وبماذا أجبت؟
ثم يرفع يديه باكياً: اللهم إنك قد وعدتني الثواب إن صبرت، اللهم ما وهبته لي من أجر فاجعله لـ ذر صلة مني، وتجاوز عنه، فأنت أرحم به مني، اللهم إني قد وهبت لـ ذر إساءته فهب له إساءته فأنت أجود مني وأكرم، ثم انصرف ودموعه تقطر على لحيته.
وليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها روح تسيل فتقطر
انصرف وهو يقول: يا ذر! قد انصرفنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك، وربنا قد استودعناك، والله يرحمنا وإياك.
ما الذي ثَبَّت هذا الرجل إلا الإيمان؟
هذه آثار الإيمان على حياة الناس تظهر عند الشدائد، فيثبت لها الرجال ثبات الجبال الشُّم الراسيات.
علو في الحياة وفي الممات