ولا يُنَسى إن نُسي أمرٌ يوم وقع الطاعون بأرض الشام -كما في السير للذهبي - فخطب الناس عمرو -رضي الله عنه- فقال: إن هذا الطاعون رجس؛ ففروا منه في الأودية والشعاب، فبلغ ذلك شرحبيل بن حسنة -رضي الله عنه- فغضب، وجاء يجرُّ ثوبه، ونعلاه في يده، قائلاً: لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسمعوا: [[الطاعون رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، يستشهد الله به أنفسكم، ويزكي أعمالكم]].
فبلغ ذلك معاذاً -رضي الله عنه، وهو يتوق إلى الشهادة في سبيل الله- فقال:[[اللهم اجعل نصيب أهل بيت معاذ الأوفر منه]]؛ لأنه يعلم أن من أصيب به له مثل أجر الشهيد، فتصاب ابنتاه الاثنتان، وتموتان، فدفنهما في قبر واحد، وحمد الله واسترجع، ثم أصيب ابنه عبد الرحمن -وهو من أعز أبنائه- فقال معاذ لابنه: كيف تجدك؟ قال: أبتاه! {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}[آل عمران:٦٠].
فقال معاذ -رضي الله عنه-: ستجدني إن شاء الله من الصابرين.
ثم توفي -رحمه الله- ثم أصاب الطاعون كفَّ معاذ -رضي الله عنه وأرضاه- فجعل يقبلها، ويقول:[[لَهِيَ أحب إليَّ من حمر النعم، ثم يُغشى عليه فإذا سرِّيَ عنه قال: يا رب! غُمّ غمك، واخنق خنقتك؛ فوعزتك إنك لتعلم أني لأحبك]] ثم لقي الله جل وعلا بعد أن احتسب أهل بيته جميعاً؛ فما كان إلا الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره.
وقبل ذلك لـ معاذ يروى عن المعاف بن عمران عن شهاب بن خراش عن عبد الرحمن بن غنم قال: دخلنا على معاذ -رضي الله عنه- وهو قائم عند رأس ابن له، وهو يجود بنفسه؛ فما ملكنا أنفسنا أن ذرفت أعيننا، وانتحب بعضنا، فزجره معاذ، وقال:[[مه! فوالله لأن يعلم الله برضائي بهذا أحب إليّ من كل غزاة غزوتها، من كان عليه عزيز وبه ضنين، فصبر على مصيبته واحتسب أبدل الله الميت داراً خيراً من داره، وقراراً خيراً من قراره، وأبدل المصاب الصلاة والرحمة والمغفرة والرضوان]] قال: فما برحنا حتى قضى الغلام، فقام فغسله وحنَّطه وكفَّنه وصلينا عليه، ثم نزل في قبره ووضعه، ثم سوَّى عليه التراب، ثم رجع إلى مجلسه، فدعى بدهن فادَّهن، وبكحل فاكتحل، وببردة جميلة فلبسها وأكثر من التبسم -ينوي ما ينوي- ثم قال:[[إنا لله وإنا إليه راجعون، في الله خلف من كل هالك، وعزاء من كل مصيبة، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون]].
لسان حاله:
كل ما كان من قضاء فيحلو بفؤادي نزوله ويطيب
أيها الأحبة: لا زلنا في رياض الراضين بالقضاء نعيش لنعتبر ونتعظ ونسلو ونرضى.