للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بيان منزلة الصدِّيق

صورة أخرى: في الترمذي بسند حسن أن عمر رضي الله عنه قال: {ندب النبي صلى الله عليه وسلم للصدقة ذات يوم، فوافق ذلك مال عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً من الدهر، قال: فجئت بنصف مالي، فقال صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم مثله} وكانوا أهل صدق، لا يعرفون التباهي بغير الحق، ولا يعرفون الالتواء، كانوا أصفياء أتقياء أنقياء رضي الله عنهم {ويأتي أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه بكل ماله لم يُبْقِ قليلاً ولا كثيراً، فيقول صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فيقول عمر: فقلت في نفسي: لا أسابقك في شيء بعد اليوم أبداً} أيقن عمر واقتنع عمر بأن المرتبة الأولى وأن المركز الأول أصبح محجوزاً لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه ولا شك، فلينافس فيما بعد ذلك المركز.

في الفضائل للإمام أحمد بسند صحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أتاني جبريل، فأخذ بيدي، فأراني باب الجنة التي تدخل منه أمتي، فقال أبو بكر: وددت يا رسول الله! أني معك حتى أنظر إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي}.

صور عجيبة وحقيقة بالتأمل يا أيها الأحبة، أبو بكر ينفق كل ماله، وعمر نصف ماله، وعثمان ينفق حتى يقول صلى الله عليه وسلم: {ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم} وأبو ضمضم لم يجد ما ينفق، فتصدق بعرضه على المسلمين، فسامح كل من سبه وشتمه وآذاه.

من منا أيها الأحبة يلقى الله وقد أنفق عشر ماله مرة واحدة في حياته في سبيل الله ومآسي المسلمين في كل مكان، وجراحات المسلمين في كل مكان، شباب المسلمين صاخب باسم الشهوة فلا يجدون من يعينهم على إعفاف أنفسهم، بيوت تصاب بالتخمة وأخرى بجوارها تصاب بالضعف والهزال، مسلم ينام على الحرير وجاره ينام على الكراتين، فأين الشعور بالجسد الواحد يا أيها المسلمون؟! القرآن للصدقة يندبنا، والسنة تندبنا، وحال المجتمع يندبنا، وفيض المال من فضل الله سبحانه وتعالى بأيدينا يندبنا، من منا يلقى الله وفي صحيفة عمله أنه تصدق بعشر ماله مرة واحدة في حياته؟!

يا أحفاد أبي بكر! ويا أحفاد عمر وعثمان وعلي!

سيروا كما ساروا لتجنوا ماجنوا لا يحصد الحب سوى الزراع

وتيقظوا فالسيل قد بلغ الزبى يا أيها النومى على الأمطاع

واسترجعوا ما فات من أمجادكم ما دمتم في مهلة استرجاع

يا خاطب العلياء إن صداقها صعب المنال على قصير الباع

صورة أخرى: أخرج البخاري عن أبي الدرداء قال: {كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أقبل أبي بكر آخذاً طرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فلم رآه صلى الله عليه وسلم قال: أما صاحبكم فقد غامر -معنى ذلك: أنه وقع في هول وخطر- فأقبل حتى سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا رسول الله! إن كان بيني وبين عمر شيء فأسرعت إليه -أي: أخطأت عليه- ثم إني ندمت على ما كان مني، فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، فتبعته البقيع كله حتى تحرز بداره مني، وأقبلت إليك يا رسول الله، فيقول صلى الله عليه وسلم: يغفر الله لك يا أبا بكر! يغفر الله لك يا أبا بكر!

ثم ندم عمر حين سأله أن يغفر له فلم يغفر له، فخرج يبحث عنه حتى أتى منزل أبي بكر فسأل، هل ثم أبو بكر؟ فقالوا: لا نعلم، فعلم أنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلم عليه، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق أبو بكر أن يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر ما يكره، فجثا أبو بكر على ركبتيه وقال: يا رسول الله كنت أظلم، كنت أظلم، مرتين يقول: أنا أظلم له، أنا البادئ بذلك، فيقول صلى الله عليه وسلم مبيناً مكانة أبي بكر وفضل أبي بكر: إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي لي فهل أنتم تاركو لي صاحبي}.

عن ربيعة الأسلمي بسند صحيح كما في الفضائل للإمام أحمد، قال: {كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني أرضاً، وأعطى أبا بكر أرضاً، وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة، فقلت: هي في نصيبي، وقال أبو بكر: هي في نصيبي، فكان بيني وبينه كلام، فقال أبو بكر كلمة كرهها وندم عليها، ثم قال: يا ربيعة! ردَّ علي مثلها حتى يكون ذلك قصاصاً، قلت: ما أنا بفاعل، قال أبو بكر: لتردنها أو لأستعدين عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما أنا بفاعل، فانطلق أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ربيعة: وانطلقت أتلوه، فجاء أناس من قومي أسلم، فقالوا: رحم الله أبا بكر، بأي شيء يستعدي عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال ما قال، فيقول ربيعة وقد عرف منزلة أبي بكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: اسكتوا هذا ثاني اثنين إذ هما في الغار، هذا ذو شيبة المسلمين، لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيغضب لغضبه، فيغضب الله لغضبهما فيهلك ربيعة.

وانطلق أبو بكر وتبعته، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ربيعة: فحدثه الحديث، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، وقال: يا ربيعة! مالك وللصديق؟ قلت: يا رسول الله! قال كلمة كرهها وطلب مني أن أقتص، فأبيت، فقال صلى الله عليه وسلم: أجل فلا ترد على أبي بكر، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر، قال: فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر، قال الحسن: فولى أبو بكر يبكي}.

أيها الأحبة! قفوا وتأملوا كلمة ليست من فاحش القول تزلزل كيان أبي بكر، ويأبى إلا القصاص منه، فيا لله! ماذا يقول الفاحشون؟!

ماذا يقول اللعانون؟!

ماذا يقول الطعانون؟!

ماذا يقول المغتابون؟!

ماذا يقول النمامون؟!

ماذا يقول الوالغون في أعراض المسلمين؟!

ماذا يقول من لم يلغوا في أعراض المسلمين عامة لكنهم ولغوا في أعراض خواص المسلمين وهم العلماء، ثم يَدَّعون أنهم على منهج أبي بكر وعمر وسلف المؤمنين؟!

وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا

رويداً على علمائنا أيها الأحبة، رفقاً بورثة الأنبياء، حسن ظن بالعلماء، معرفة لحق العلماء، احتراماً وتوقيراً وتقديراً للعلماء، علماؤنا هم زهرة الدنيا ومشعل نورها في دربنا المتعثر، أنفسنا لأنفس العلماء فداء، وأعراضنا لأعراضهم مطاء.

أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا