للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معركة القادسية من الداخل]

ونحن في ثنايا انتصارات عمر علينا أن ندرس بعض الصور فيها من داخلها.

ففي القادسية صور مضيئة جديرة بأن نقف عندها وقفة تأمل واعتبار واقتداء.

ومنها: أنها ضمت في صفوفها ما يربو على ثلاثمائة صحابي، منهم تسعون بدرياً، فهي تتميز بذلك عن غيرها من المعارك.

ثم انظر بعين بصيرتك إلى عمر يوم يقول لـ سعد موصيًا ومودعًا -وتأمل الوصية وانظر وتفكر-[[يا سعد بن وهيب لا يغرنَّك إن قيل: خال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه ليس بين الله وبين أحد نسب إلا بالتقوى]] وتأملوا الميزان والمعيار التي قد تختلف عليه الأشكال، لكن الحقيقة واحدة، في اليرموك وفي بدر وأحد وفي زمن قتيبة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

النسب واحد؛ هو التقوى، والمعيار والميزان هو التقوى، عَضُّوا عليها.

وإن كان سعد خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان سعد مبشراً بالجنة، وإن كان ممن جمع له الرسول صلى الله عليه وسلم أبويه، وإن كان من قال فيه: {هذا خالي فليرني امرؤ خاله} نعم.

حذار يا سعد! من الاغترار، توجيه عمريٌ، لا تغتر بكلام الناس، والتقوى فالزم فهي المؤهَّل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣].

كيف لو أن عمر -يا أيها الأحبة- يرى وينظر إلى وسائلنا -وسائل الأمة المسلمة- هذه الأيام لرأى عجبًا وهي تدمر المسئولين في الأمة المسلمة، وتحوِّلهم من بشر يصيب ويخطئ ويُحاسَب إلى أناس لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، بل لا يسألون عما يفعلون.

ويُرْفع شأن مختلس وغاو ويُجْفى كل ذي عقل رزين

والله! أيها الأحبة: يوم يدخل المرء داخل معركة القادسية وغيرها، يعرف ماذا كان يجري في جيش المسلمين، وفي جيش الكافرين، يعرف حينها عوامل النصر، ومؤهلات العز، وعوامل الهزيمة.

فادخل معي إلى المعركة، واسمع.

كما تعلمون تبدأ المعارك -غالبًا- بالمبارزة، وبدأت المبارزة بين الصفين؛ بين صف يقول: لا إله إلا الله، وبين صفٍّ يعبد النار من دون الله، فقام علج من الفرس ما عرف الله لحظة من اللحظات، ودخل الساحة، فخرج إليه رجل من المسلمين، فتجاولا وتصاولا، فلم يلبث العلج الفارسي أن قتل المسلم.

والمبارزة كما تعلمون لها تأثير نفسي -غالباً- على الجيش وعلى مستقبل المعركة، فخرج إليه رجل آخر من المسلمين وبدأت المبارزة مرة أخرى، فلم يلبث العلج أن قتل المسلم، ففتَّ ذلك في عَضُد المسلمين، ثم خرج ثالث من المسلمين -يتهاوون على الموت، يريدون ما عند الله- وتجاولا، فلم يلبث العلج أن قتل المسلم، فوهن ذلك في عزم المسلمين وهنًا شديدًا، كافر يقتل ثلاثة من المسلمين في تلك اللحظة الحرجة!

كان في جيش المسلمين شيخ كبير قد بلغ ما يربو على ثمانين عامًا، لا يزال يجاهد والمؤمن في جهاد حتى يلقى الله ممتثلاً قول الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:٩٩] خرج هذا الشيخ الكبير على فرسه لسان حاله يقول:

أخي ظمئتْ للقتال السيوفُ فأورد شَبَاها الدمَ المُصْعَداَ

فإمَّا حياة تسرُّ الصديق وإمَّا مماتٌ يغيظ العدا

ويصاول ذلك العلج الذي انتفخ ريشه وتكبر؛ لأنه قتل ثلاثة من المسلمين، فتطاول معه زمناً طويلاً، لكن هذا الشيخ المسلم ما لبث أن قفز من خيله إلى خيل ذلك الفارسي فصارا على خيل واحدة، ثم حمل هذا الفارسي بيده وهو مدجج بالسلاح والدروع فرفعه بيديه، ثم أنزله على ركبتيه فكسر ظهره نصفين، ثم رمى به، وقال: هذا علج خبيث، لا يستحق أن يضرب بالسيف.

فكبر المسلمون ودارت المعركة فكان النصر لمن ينصرون الله.

هذا هو الإيمان درب نجاتنا فما بالنا عن دربنا نتنكَّب

ما بالنا نرنو إلى أعدائنا وسهامهم نحو الصدور تُصَوَّب

ما بالنا نرنو إلى أعدائنا والله للإنسان منهم أقرب

صعب طريق الموت مرٌّ طَعْمُه حقًا ولكن الدَّنيَّة أصعب

أين تربى ذلك الشيخ -أيها الأحبة- الذي عمره فوق ثمانين؟

إنه -ولا شك- في رياض كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تربى عليهما عرف مهمته في الحياة، وهي إعلاء كلمة الله، وابتغاء مرضاة الله.

بذل كل شئ في حياته لتحقيق هذه المهمة، وهكذا كان الواحد من سلفنا، عنده بصيرة يتحرك بها على الأرض، ويعرف كيف ينصر دينه، ويفكر كيف ينصر دينه، وبالتالي نُصِرُوا.

من يتق الله وينصر دينه لابد في ساح المعارك يُنْصَرُ

هذه صفحة في ثنايا القادسية التي ما هي -والله الذي لا إله إلا هو- إلا جزء من جهاد في ثنايا جهاد عمر وصحبه رضوان الله عليهم الذين أرهبوا أعداء الله، ومكنوا لدين الله في الأرض، فما الحال، وما الواقع اليوم والأمة تدَّعي الصلة بذلك الجيل وتلك الطائفة؟