يعسُّ عمر -رضي الله عنه- ليلة من الليالي، ويتتبع أحوال الأمة، وتعب واتكأ على جدار، فإذا بامرأة تقول لابنتها: امذقي اللبن بالماء ليكثر عند البيع، فقالت البنت: إن عمر أمر مناديه أن ينادي: ألا يشاب اللبن بالماء، فقالت الأم: يا ابنتي قومي إنكِ بموضع لا يراكِ فيه عمر ولا مناديه، فقالت البنت المستشعرة لرقابة الله: يا أماه! أين الله؟ والله ما كنت لأطيعه في الملا وأعصيه في الخلا.
ويمر عمر مرة أخرى بامرأة أخرى تغيب عنها زوجها منذ شهور في الجهاد في سبيل الله -عز وجل- قد تغيبت في ظلمات ثلاث: في ظلمة الغربة والبعد عن زوجها، وفي ظلمة الليل، وفي ظلمة قعر بيتها، وإذا بها تنشد وتقول وتحكي مأساتها:
تطاول هذا الليل وازورَّ جانبه وأرَّقني ألا حبيب ألاعبه
فو الله لولا الله لا رب غيره لحُرِّك من هذا السرير جوانبه
من الذي راقبته في ظلام الليل، وفي بُعْد عن زوجها، وفي هدأة العيون؛ والله ما راقبت إلا الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
أنْعِم بها من مراقبة، وأنْعِم بها من امرأة!
وأعرابية أخرى يراودها رجل على نفسها -كما أورد ابن رجب - ثم قال لها: لا يرانا أحد إلا الكواكب.
فقالت: وأين مكوكبها يا رجل؟! حالها: أين الله يا رجل؟ أتستخفي من الناس ولا تستخفي من الله وهو معك، إذ تبيت ما لا يرضى من القول!