للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[آيات الله في البحر]

تأمل معي البحر بأمواجه وأحيائه تجده آية من آيات الله، ومن عجائب مصنوعاته، وكم لله من آية، ثم أضف إلى علمك أن الماء في الأرض يملأ ثلاثة أرباع سطح الأرض، فما الأرض بجبالها، ومدنها، وسهولها، وأوديتها بالنسبة إلى الماء إلا كجزيرة صغيرة في بحر عظيم يعلوها الماء من كل جانب، وطبعه العلو، ولولا إمساك الرب -سبحانه وبحمده- له بقدرته ومشيئته؛ لطفح على الأرض فأغرقها ودمرها وجعل عاليها سافلها، فتبارك الله لا إله إلا هو رب العالمين.

ثم تأمل معي أخرى عجائب البحر وما فيه من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأشكالها ومنافعها ومضارها وألوانها تجد عجباً وقدرة قادر جل وعلا، في البحار حيوانات كالجبال لا يقوم لها شيء، وفيه من الحيوانات ما يرى من ظهورها فيظن من عظمها أنها جزيرة فينزل عليها الركاب ويشعلوا نارهم فتحس بالنار إذا أوقدت فتتحرك فَيُعْلَم أنه حيوان كما ذكر ابن القيم ذلك في مفتاح دار السعادة، قال ابن القيم: وما من صنف من أصناف حيوان البر إلا وفي البحر أمثاله، بل فيه أجناس لا يعهد لها نظير أصلاً، مع ما فيه أيضاً من اللآلئ والجواهر والمرجان، فسبحان الخالق الرحيم الرحمن!

ثم انظر إلى السفن وسيرها في البحر تشقه وتمخر عبابه، بلا قائد يقودها ولا سائق يسوقها، وإنما قائدها وسائقها الريح الذي سخره الله لإجرائها، فإذا حبست عنها الريح ظلت راكدة على وجه الماء، فذاك قول الله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [الشورى:٣٢ - ٣٣].

نعم.

سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، لا بأمر غيره سبحانه وبحمده، سخرها بأمره تجري ليست وفق رغبات النفوس الأمارة بالسوء، ولا رغبات الجشعين من الأفراد والهيئات التي استعملت أساطيلها منذ أقدم العصور إلى يومك هذا لقهر الإنسان ونهب خيراته واحتقار آدميته، فلك الحمد ربنا، ولك الأمر من قبل ومن بعد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي صنع الإنجليز باخرة عظيمة، كانت كما يقولون فخر صناعاتهم، ثم انطلقت في رحلة ترفيهية حاملة على متنها علية القوم ونخبة المجتمع كما يصفون أنفسهم، وقد بلغ الفخر والاعتزاز ببناة السفينة درجة كبيرة من الصلف والغرور فسموها: الباخرة التي لا تقهر، بل سمع أحد أفراد طاقمها يتشدق فخراً أمام بعض كبار ركابها بما ترجمته: حتى الله نفسه لا يستطيع أن يغرق هذا المركب.

جل الله وتعالى وتقدس لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يحيي ويميت: {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران:٤٧] وفي اليوم الثالث من سيرها في المحيط الأطلسي وفي خضم كبرياء صنّاعها وركّابها تصطدم بجبل جليدي عائم؛ فيفتح فيها فجوة بطول تسعين متراً- طعنت فانبجست- وبعد ساعتين وربع تستقر الباخرة التي لا تقهر -كما زعموا- في قعر المحيط ومعها ألف وخمسمائة وأربعة ركاب وحمولة بلغت ستة وأربعين ألف طن: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:٤٠].

تأمل معي أخرى كيف مد الله البحار وخلطها، وجعل مع ذلك بينها حاجزاً ومكاناً محفوظاً، فلا تبغي محتويات بحرٍ على بحر، ولا خصائص بحرٍ على آخر عندما يلتقيان: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى) [طه:٥٤] في إيران أنهار عندما تلتقي بمياه البحر ترجع مياهها عائدة إلى مجاريها التي جاءت منها، ونهر الأمازون يجعل مياه المحيط الأطلسي عذبة لمئات الكيلو مترات من مصبه فيه فلا يختلط بمياه المحيط الأطلسي، وتلتقي مياه المحيط الأطلسي بمياه البحر الأبيض فتبقى مياه البحر الأبيض أسفل لثقلها ولكثرة ملحها وتعلو مياه المحيط لخفتها.

وكذلك لا تختلط مياه البحر الأسود بمياه البحر الأبيض عندما تلتقي بل تشكل مجريين متلاصقين فوق بعضهما البعض، فمياه البحر الأسود تجري في الأعلى نحو مياه البحر الأبيض لأنها أخف، ومياه البحر الأبيض تجري في الأسفل لأنها أثقل فتجري نحو البحر الأسود، فتبارك الذي: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً} [الفرقان:٥٣] {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:٣١] عجائب البحر أعظم من أن يحصيها أحد إلا الله.

كشف علماء البحار من النصف الثاني من القرن العشرين أن في البحار أمواجاً عاتية دهماء مظلمة حالكة، إذا أخرج المرء يده لم يكد يراها، فعلى عمق ستين متراً عن سطح البحر يصبح كل شيء مظلماً في البحار، بمعنى أننا لا نستطيع رؤية الأشياء في أعماق تبعد ستين متراً عن سطح البحر، ولذلك زود الله الأحياء البحرية التي تعيش في أعماق البحار اللجية بنور تولده لنفسها، ومن لم يجعل الله له نوراً في تلك الظلمات فما له من نور.

نسي هؤلاء المكتشفون أن الله ذكر تلك الظلمات في قوله قبل أن يخلقوا وآباؤهم وأجدادهم: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:٤٠].

تُرْجِمَ معنى هذه الآية لعالم من علماء البحار أفنى عمره في ذلك وظن أنه على شيء وأنه اكتشف شيئاً وجاء بشيء فيه إبداع، فقال في دهشة بعد ترجمة الآية: إن هذا ليس من عند محمد الذي عاش حياته في الصحراء، ولم يعاين البحر ولججه وظلماته وأمواجه، إن هذا من عند عليم خبير، ثم شهد شهادة الحق ودخل في دين الله نعم.

لا يملك إلا ذلك.

من واصف الظلمات في قعر الـ بحار سوى الله العليم الباري

سبحانه ملكاً على العرش استوى وحوى جميع المُلْكِ والسلطان

لا إله إلا الله!

كيف تعمى العيون وتعمى القلوب عن آيات الله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ} [النمل:٦٣]، سأل رجل أحد السلف عن الله، فقال له: ألم تركب البحر؟ قال: بلى.

قال: فهل حدث لك مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة؟ قال: نعم.

قال: وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة؟ قال: نعم.

قال: فهل خطر ببالك وانقدح في نفسك بأن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء؟ قال: نعم.

قال: فذاك هو الله لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس:٢٢ - ٢٣].

ومن عجائب البحر التي تدل على إدراكه وعبوديته لله جل وعلا: أنه يعظم عليه أن يرى ابن آدم يعصي الله عز وجل مع حلم الله عليه، فيتألم البحر لذلك ويتمنى هلاك عصاة بني آدم، بل ويستأذن ربه في ذلك، جاء في مسند الإمام أحمد فيما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ليس من ليلة إلا والبحر يشرق فيها ثلاث مرات يستأذن الله أن ينتضح عليهم -أي على العصاة- فيكفه الله بمنه وكرمه} فلا إله إلا الله! البحر يتمعر، ويتمنى إغراق العصاة، ويستطيع لكنه مأمور، ومنا من لا تحرك فيه المعصية ساكناً، تُنْتَهَك حرمات الله، وتُتَجَاوز حدوده، وتُضَيَّع فرائضه، ويعادى أولياؤه، ثم لا تتمعر الوجوه، فأين الإيمان يا أهل الإيمان؟

إن في ذلك لآية وكم لله من آية، فتأملوا يا أولي الألباب!