[آيات الله في النمل]
تأمل تلك النملة الضعيفة، وما أعطيت من فطنة وحيلة في جمع القوت وادخاره، وحفظه ودفع الآفة عنه، ترى عبراً وآيات باهرات تنطق بقدرة رب الأرض والسماوات وتقول: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل:٦٢].
انظر إليها تخرج من أسرابها طالبة أقواتها، فإذا ظفرت بها شرعت في نقلها على فرقتين اثنتين، فرقة تحملها إلى بيوتها ذاهبة، وأخرى خارجة من بيوتها إلى القوت، لا تخالط فرقة أخرى كخيطين أو جماعتين من الناس، الذاهبون في طريق والراجعون في أخرى في تناسق عجيب.
ثم إذا ثقل عليها حمل شيء، استغاثت بأخواتها فتعاونت معها على حملها، ثم خلوا بينها وبينه، وبلا أجرة، تنقل الحب إلى مساكنها ثم تكسره اثنتين أو أربعة، لئلا ينبت إذا أصابه بلل، وإذا خافت عليه العفن، أخرجته إلى الشمس حتى يجف، ثم ترده إلى بيوتها، ولعلك قد مررت يوماً عليها وعلى أبواب مساكنها حب مكسر، ثم تعود عن قريب فلا ترى منه حبة واحدة.
والنمل مع ذلك يعتني بالزراعة وفلاحة الأرض، فقد شاهد أحد العلماء في إحدى الغابات قطعة من الأرض قد نما فيها أرز قصير من نوع بري مساحة القطعة خمسة أقدام في ثلاثة، ويترائى للناظر إلى هذه البقعة من الأرض أن أحداً لا بد أن يعتني بها، الطينة مشققة، والأعشاب مستأصلة والغريب أنه ليس هناك مناطق أرز حول ذلك المكان.
ولاحظ ذلك العالم أن طوائف من النمل تأتي إلى هذه المزرعة الصغيرة وتذهب، فانبطح على الأرض ذات يوم ليراقب ماذا يصنع النمل، فإذا به يفاجأ أن النمل هو صاحب المزرعة، وإنه اتخذ الزراعة مهنة تشغل كل وقته، فبعضه يشق الأرض ويحرث، والبعض يزيل الأعشاب الضارة وينظف، وطال الأرز واستوى ونضج، وبدأ موسم الحصاد، وهذا لا زال بمناظيره يراقب، فيشاهد صفاً من النمل وهو في وقت الحصاد متسلقاً شجر الأرز، إلى أن يصل إلى الحبوب فتنزع كل نملة حبة من تلك الحبوب، ثم تهبط سريعاً إلى الأرض، ثم تذهب بها إلى مخازن تحت الأرض لتخزنها ثم تعودَ.
وطائفة أخرى أعجب من ذلك تتسلق مجموعة كبيرة منها أعواد الأرز، فتلقط الحب وتلقي به فبينما هي كذلك، إذ بمجموعة أخرى تحتها تتلقى هذا الحب وتذهب به إلى المخازن.
ويعيش النمل هناك عيشة مدنية في بيوت، بل في شقق وأدوار، أجزاء منها تحت الأرض، وأجزاء أخرى فوقها، له حراس وخدم وعبيد وهناك ممرضات تعنى بالمرضى ليلاً ونهاراً، وقسم آخر يرفع جثث الموتى ويشيعها ليدفنها، كل هذا يتم بغريزة أودعها الله في هذا القلب، فتبارك الله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:٣٨].
عالم النمل عالم عجيب، من تأمله ازداد إيماناً ويقيناً بأن وراء ذلك التنظيم المحكم حكيماً خبيراً، بإفراد العبادة له جديراً لا شريك له.
إنها تعرف ربها، وتعرف أنه فوق سماواته مستوٍ على عرشه، بيده كل شيء يوم ضل من ضل، روى الإمام أحمد في الزهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه قال: {خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون، فإذا هم بنملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء تدعو ربها، فقال: ارجعوا فقد سقيتم بغيركم}.
للنمل مدافن جماعية يدفن فيها موتاه كالإنسان، والنمل ذكي جد ذكي، ويصطاد بطريقة ذكية، يأتي إلى شجرة فينقسم إلى قسمين، قسم يرابط تحت الشجرة قرب جذعها، وآخر يتسلق جذعها لمهاجمة الحشرات التي تكون عليها، وبذلك يحكم الطوق على كل حشرة لا تطير، فتسقط التي تنجو من النمل المتسلق فتقع في شباك النمل المتربص بها عند قاعدتها، من هداها؟ من هيأ لها رزقها؟ إنه القائل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:٦] ألا له الخلق والأمر، لا إله إلا هو وحده لا شريك له.