[مكانة المرأة المسلمة وبعض مواقفها]
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن كثيراً من النساء مَحَاضن خالدة لتربية الأجيال، ولبعضهن مواقف مشرفة، تصلح نبراساً وأُنموذجاً لفتياتنا وأمهاتنا وأخواتنا، في وقت أصبحت مصممة الأزياء والممثلة والراقصة والفنانة العاهرة الفاجرة هي القدوة، وهي الأسوة، إلا عند من رحمهن الله سبحانه فإليكم بعض النماذج:
هاهي صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها يتوفى عنها زوجها، ويترك لها ابناً هو الزبير رضي الله عنه وأرضاه، فنشأته نشأة الخشونة، وربَّته على الفروسية والحرب، وجعلت لعبه في بري السهام وإصلاح القسي، ودأبت على قذفه في كل مخوفة، وتقحمه في كل خطر، فإذا أحجم ضربته ضرباً مبرحاً، حتى إنها عوتبت من بعض أعمامه، حيث قال لها: إنك تضربينه ضرب مبغضة لا ضرب أم.
فقالت مرتجزة:
من قالَ قد أبغضتُه فقد كذبْ وإنما أضربُه لكي يلبْ
ويهزم الجيشَ ويأتي بالسلبْ
آمنت بالله جل وعلا، وصدقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاجرت مع من هاجر، وهي تخطو إلى الستين من عمرها، وفي أحد جاهدت مع ابن أخيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاهدت مع أخيها حمزة رضي الله عنه، ومع ابنها الزبير رضي الله عنه: {ذُرِّيَّة بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} [آل عمران:٣٤] فلما انكشف المسلمون في أحد -كما تعلمون- هبَّت هذه المرأة كاللبؤة، وانتزعت رمحاً من أحد المنهزمين، وانقضَّت تشق الصفوف وتزأر في المسلمين كالأسد، وتقول: ويحكم أتفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ويراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لابنها الزبير: {ردها فإن أخاها حمزة قد مَثَّل به المشركون، فقال لها ابنها: إليك يا أماه! إليك يا أماه! قالت: تنحَّ عني لا أم لك، أتفِرُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إن رسول الله يأمرك أن ترجعي.
فقالت -وقد كانوا وقَّافين عند أمر الله وأمر رسوله-: الأمر أمر الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
فتوقفت، وقالت: ولم يردني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنه قد بلغني أنه قد مُثِّل بأخي وذلك في ذات الله، وذلك في سبيل الله، والحمد لله، فقال صلى الله عليه وسلم لابنها: خَلِّ سبيلها، خلِّ سبيلها} فخاضت المعركة حتى انتهت، ولما وضعت الحرب أوزارها، وقفت على حمزة أخيها وقفة العظماء، قد بُقر بطنه، وأُخرجت كبده، وجُدع أنفه، وُقطعت أُذناه، وشُوِّه وجهه، فاستغفرت له، وجعلت تقول: إن ذلك في ذات الله، إن ذلك لفي ذات الله، وقد رضيت بقضاء الله، دموعها تذرف وقلبها يلتهب:
وليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها روحٌ تسيلُ فتقطرُ
تقول: لأصبرن وأحتسبن إن شاء الله.
لأصبرن وأحتسبن إن شاء الله.
هذا موقف من مواقف صفية.
وموقف آخر لا يقل عن هذا الموقف، في يوم الخندق تركها النبي صلى الله عليه وسلم مع نساء المسلمين في حصن حسان، وهو من أمنع الحصون هناك، وجاء اليهود، فأرسلوا واحداً؛ ليرى هل أبقى الرسول صلى الله عليه وسلم حُماة للنساء والذراري في هذا الحصن أم لم يُبقِ أحداً؟ فرأت ذلك اليهودي يتسلل إلى الحصن، فما كان منها إلا أن نزلت عليه بعمود، فضربته أولى وثانية وثالثة، وقتلته، ثم احتزت رأسه، ثم طلعت به إلى أعلى الحصن، ثم رمت برأسه؛ فإذا هو يتدحرج بين أيدي اليهود، فقال قائل اليهود: قد علمنا أن محمداً لن يترك النساء من غير حُماة.
فرحم الله صفية رحمة واسعة، قد كانت مثلا فذّاً للأم المربية المسلمة، ربَّت وحيدها وصبرت على أخيها، وكانت أول امرأة قتلت مشركاً في الإسلام، فرحمها الله رحمة واسعة، وأخرج من أصلاب هذه الأمة نساء كتلك المرأة، بل رجالاً كـ صفية.
وهاهي ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وأرضاها تلكم المرأة التي حظيت بموقف لم تحظَ به امرأة قبلها ولا بعدها، وهي خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة بالغار.
ثم انظر لتلك المرأة في أواخر سني عمرها في أحلك المواقف، وقد بلغت السابعة والتسعين، ابنها يُحاصر في الحرم، ويصبح في موقف حرج، فيذهب مباشرة إلى أمه يستشيرها في الموقف.
ماذا يفعل؟ فقالت تلكم المؤمنة الصابرة: أنت أعلم بنفسك.
إن كنت تعلم أنك على حق، وتدعو إلى الحق فاصبر عليه حتى تموت في سبيله، وإن كنت تريد الدنيا فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن معك!
قال: يا أماه! والله ما أردت الدنيا، وما جُرت في حكم، وما ظلمت، وما غدرت، والله يعلم سريرتي وما في قلبي.
فقالت: الحمد لله، وإني لأرجو الله أن يكون عزائي فيك حسناً، إن سبقتني إلى الله جل وعلا.
تعانقا عناق الوداع، ثم قالت: يا بني اقترب حتى أشم رائحتك، وأضم جسدك، فقد يكون هذا آخر العهد بك، فأكبَّ على يديها، ورجليها، ووجهها، يلثمها ويقبلها، دموع تشتبك في دموع، وهي تتلمس ابنها وهي عمياء لا ترى، ثم ترفع يدها، وهي تقول: ما هذا الذي تلبسه؟ قال: درعي.
قالت: يا بني! ما هذا لباس من يريد الشهادة في سبيل الله؟ انزعه عنك؛ فهو أقوى لوثبتك، وأخف لحركتك، والبس بدلاً منه سراويل مضاعفة، حتى إذا صُرعت لم تنكشف عورتك، فنزع درعه وشدَّ سراويله، ومضى إلى الحرم لمواصلة القتال، وهو يقول: لا تفتري عن الدعاء يا أماه! فرفعت كفها قائلة:
اللهم ارحم طول قيامه، وشدة نحيبه في سواد الليل والناس نيام.
اللهم ارحم جوعه وظمأه في هواجر مكة والمدينة، وهو صائم.
اللهم إني قد أسلمته لك، ورضيت بما قضيت فيه فأثبني فيه ثواب الصابرين.
ويذهب ابنها، وبعد ساعة من الزمن انقضت في قتال مرير غير متكافئ، تلقى ابنها عبد الله ضربة الموت، ليلقى الله عز وجل.
ليس هذا فحسب؛ بل يُصلب جثمانه كالطود الشامخ في الحجون.
علوٌ في الحياةِ وفي المماتِ لحقٍ أنت إحدى المَكرُمات
كأنَّك واقفٌ فيهم خطيباً وهم وقفوا قياماً للصلاةِ
وتسمع الأم الصابرة ذات السبع والتسعين سنة، العمياء البصيرة، وتذهب إلى ولدها المصلوب تتلمس الطريق حتى تصل، فتأتي فإذا هو كالطود الشامخ، تقترب منه وتدعو له، وإذ بقاتله يأتي إليها في هوان وذلة، ويقول: يا أماه! إن الخليفة أوصاني بك خيراً، فتصيح به: لست لك بأم، أنا أم هذا المصلوب، وعند الله تجتمع الخصوم.
ويتقدم ابن عمر رضي الله عنه معزياً لها، ومواسياً لها، فيقول: اتقي الله واصبري، فتقول -له بلسان المؤمنة الواثقة بموعود الله-: يا بن عمر! وماذا يمنعني أن أصبر، وقد أُهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل؟
أرأيتم ما أعظم الأم! وما أعظم الابن! وما أعظم الأب!
سلام على ذات النطاقين، وسلام على ابن الزبير، وسلام على الزبير، والسلام على أبي بكر، وسلام على صحابة رسول الله، وسلام على أمهات المؤمنين.
النساء محاضن الرجال، بصلاحهن يصلح الجيل، وبفسادهن يفسد الجيل، ولو استطردنا في الأمثلة لوجدنا أمثلة كثيرة يعجز الرجال أن يقفوا تلك المواقف، ناهيك عن النساء.
فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم تتزوج علياً رضي الله عنه، تجر بالرحى حتى تؤثر الرحى في يدها، وتستقي بالقربة حتى أثَّرت في نحرها، وتقُمُّ البيت، وتوقد النار، وتربي أبناءها؛ فيكون من أبنائها الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة:
هي بنت من هي أم من؟ هي زوج من؟ من ذا يساوي في الأنامِ عُلاها
أما أبوها فهو أكرم مرسلٍ جبريلُ بالتَّوحيد قد رَباها
وعليٌ زوجٌ لا تسل عنهُ سوى سيفِ غدا بيمينه تيَّاهاً
فلو كان النساءُ كمن ذكرنا لفضلت النساءِ على الرجالِ
وما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكيرُ فخرُ للهلالِ
آن للنساء أن يقتدين بالطهر والعفة والفضيلة؛ بـ صفية وأسماء وعائشة وفاطمة.
فالأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيبَ الأَعْراق