للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من عرف الحق هانت عنده التضحيات]

علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن من عرف الحق هانت عنده التضحيات، فيتعالى على متع الحياة وعلى زخارفها؛ لأنه ينتظر متعة أبدية سرمدية في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر: فيقدم مراد الله على شهواته ولذائذه، ويقدم مراد الله على كل ما يلذ لعينه وما يلذ لقلبه، فيسعد في دنياه ويسعد في أخراه، وفي الأثر أن الله جل وعلا يقول: {وعزتي وجلالي ما من عبد آثر هواي على هواه -أي قدم مراد الله على لذائذ نفسه- إلا أقللت همومه، وجمعت له ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغنى بين عينيه، واتجرت له من وراء كل تاجر}.

هاهو أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ دميم الخلقة لكنه رجل أعطاه الله من الإيمان ما أعطاه، وما ضره أنه دميم الخلقة، تقدم ليتزوج من أحد البيوت، فكان كلما تقدم إلى بنت رفضته؛ لأنه دميم الخلقة ولأنه قصير لا ترغب فيه النساء.

فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو أصحابه ويقول: {يا رسول الله! أليس من آمن بالله وصدق بك يدخل الجنة ويزوج من الحور العين؟ -أو كما قال- قال: بلى.

قال: فما بال أصحابك لا يزوجونني؟! قال: اذهب إلى بيت فلان وقل لهم: رسول الله يطلب ابنتكم.

فذهب إلى بيت رجل من الأنصار وطرق الباب عليه فخرج صاحب البيت فسلم عليه وقال: رسول الله يطلب ابنتكم.

قالوا: نعم ونعمة عين! من لنا بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! -أي نسب نريد غير هذا النسب- قال: لكنه يطلبها لي أنا.

قال: الله المستعان! -أو كما قال- ثم ذهب ليستشير زوجه فأخبرها بذلك فقالت: رسول الله يطلب ابنتنا؟! نعم ونعمة عين! قال: ولكنه يطلبها لفلان -وسماه باسمه- فما كان منها إلا أن ترددت وقالت: أما كان أبو بكر أو عمر أو عثمان؟ ألم يجد رسول الله غير هذا؟ وكانت البنت -التقية العابدة الزاهدة التي تقدم مراد الله على لذائذ وشهوات النفس- تسمع ذلك، فخرجت إليهم وقالت: ما بكم؟ قالوا: إن رسول الله يطلبك لفلان.

قالت: وما تقولان؟ قالوا: نستشير ونرى.

قالت: أتردان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أين تذهبان من قول الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:٣٦] ادفعوني إليه، فإن الله لا يضيعني} ويسمع الرجل وينتقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويخبره الخبر، فتبرق أسارير وجهه صلى الله عليه وسلم ويفرح بها ويدعو لهذه المرأة، ففازت بدعوته صلى الله عليه وسلم.

قيل: إن المال كان يأتيها لا تعلم من أين يأتيها.

وفي ليلة الزفاف -ليلة الدخول- إذ بمنادي الجهاد ينادي: يا خيل الله! اركبي.

وهنا يقف موقفاً أيدخل على زوجته في أول ليلة في كامل زينتها أم يجيب داعي الله جل وعلا؟ فما كان منه إلا أن ترك هذه البنت وانطلق يطلب الحور العين، وذهب وانتهت المعركة وقام النبي يتفقد أصحابه فيقول: {هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلاناً وفلاناً وما فقدوا هذا الرجل -خفي تقي- فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: لكني أفقد أخي جليبيباً قوموا معي لنطلبه في القتلى، ذهب يبحث عنه صلى الله عليه وسلم، ووجده قد قتل سبعة من المشركين وقتلوه، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم على ذراعيه ومسح التراب عن وجهه، وقال: قتل سبعة من المشركين وقتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه}.

ماذا قدم هذا الرجل؟ قدم قليلاً وأخذ كثيراً وكثيراً وكثيراً.

وهاهو الشيخ الحامد أحد مشايخ الشام عليه رحمة الله، ذلك الورع التقي كما نحسبه، يتوفى أخوه الأكبر فيثني على علمه ودينه في يوم من الأيام، فيقولون له: كيف أولاده وزوجته؟ قال: لقد تحولت زوجته وأولاده إلى منزل آخر، والله! ما رأيتها خلال اثني عشر عاماً وهم يسكنون معي في المنزل إلا يوم خرجت وكانت مولية ظهرها لنا وألقت علينا السلام.

تعيش معه ولم ينظر إليها ولم يجلس معها وهم في بيت واحد؛ لأنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الحمو الموت} ولقد آثر أن يكون خطيب جامع على أن يكون رئيساً للقضاة في عهده فرحمه الله.

وهاهو صحابي اسمه أبو لبابة يختلف مع يتيم على نخلة كانت بين بستانين لهما، يدّعي اليتيم الصغير أن هذه النخلة له، فيخرج النبي صلى الله عليه وسلم ليعاين المكان، فإذا النخلة في بستان الصحابي أبي لبابة، فيحكم بها لهذا الصحابي، فتذرف دموع اليتيم.

ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغير حكمه أبداً؛ لأنه العدل الحق، لكنه أعلن عن مسابقة، قال لـ أبي لبابة: {أتعطيه النخلة ولك بها عذق في الجنة} لكنه كان مغضباً، إذ كيف يشكوه والحق له، وكان في المجلس رجل يبحث عن مثل هذه الأمنية، وهو أبو الدحداح عليه رضوان الله، قال: {يا رسول الله! ألي العذق في الجنة إن اشتريت نخلته بحديقتي وأعطيتها هذا اليتيم؟ قال: لك العذق} فما كان من أبي الدحداح إلا أن لحق بـ أبي لبابة رضي الله عنه فقال: أتبيعني نخلتك ببستاني كله؟ قال: بعتكها لا خير في نخلة شُكيت فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

فباعه إياها، فذهب أبو الدحداح إلى بستانه ودخل ونادى أم الدحداح وأولاد أبي الدحداح: أن اخرجوا فقد بعناها من الله بعذق في الجنة.

حتى قيل: إن بعض أطفاله كان في أيديهم بعض الرطب فكان يقول: قد بعناه من الله ويرميه في البستان.

فخرج ولم يكتف بذلك ولم يرض ثمناً للجنة إلا أن يقدم دمه وروحه لتزهق في سبيل الله عز وجل، وتأتي موقعة أحد ويشارك الجيش ويكون النبي صلى الله عليه وسلم في حالة تعلمونها في آخر المعركة، قد شج وجهه وكسرت رباعيته -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- ولم ينس أصحابه في تلك اللحظة الحرجة، يمر بهم فإذا هو بـ أبي الدحداح فيمسح التراب عن وجهه ويقول: {يرحمك الله! كم من عذق مذلل الآن لـ أبي الدحداح في الجنة} ماذا خسر أبو الدحداح؛ خسر تراباً وشجيرات ونخيلات؛ لكنه فاز بجنة عرضها الأرض والسماوات، وذلك هو الفوز العظيم.

ومن عرف الحق هانت عنده التضحيات.