للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة الهداية والمهتدي]

أيها المهتدي! الهداية تحولٌ جذري؛ مظهريٌ ومخبري، والله ما يجدر بحامل الهداية أن يظهر بمظهرٍ يرده الشرع، فلو خالف حامل الهداية، لكان كل مخالف أشرف منه، فلطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود كما قيل.

أنت للهداية لا للتلبيس ذاك خلق إبليس.

أنت للنور لا للظلمة، ربما زلةٍ أهلكت، وعثرةٍ قتلت، وفائت لا يستدرك، لا يبنى على الصلاح إلا صالح، وكل ما بني على الفساد فهو فاسد، ولن يأتي يومٌ فيقول مهتدٍ على الحقيقة لإبليس: رضي الله عنه"! بل نعوذ بالله منه.

إذا ما الجرح رمَّ على فساد تبين فيه تفريط الطبيب

الهداية ليست كلمةٌ تقال، بل هي حقيقةٌ ذات تكاليف، وأمانةٌ ذات أعباء، وجهادٌ يحتاج إلى صبر، وجهدٌ يحتاج إلى احتمال، وما حقيقةٌ كخيال.

الهداية على الحقيقة لا الخيال عبوديةٌ مطلقةٌ لله رب العالمين، والعبد المطلق كما يقول ابن القيم في كلامٍ قيم مضمونه في تصرف: لا تملكه رسوم، ولا تقيده قيود، عمله على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه في سواه، ملبسه ما تهيأ، مأكله ما تيسر، شغله ما أمر به في وقته، مجلسه حيث انتهى وخالياً وجد، لا تملكه إشارة، ولا يتعبده قيد، ولا يستولي عليه رسم، حرٌ مجردٌ، دائرٌ مع الأمر المأمور به حيث دار، يأنس به كل محب، ويستوحش منه كل مبطل؛ كالغيث حيثما وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلها منفعةٌ حتى شوكها، حزمٌ مع المخالفين لأمر الله، غضبٌ إذا انتهكت محارم الله، فهو لله وبالله، ومع الله، واهٍ له ما أغربه بين الناس! وما أشد وحشته! وما أعظم أنسه بالله وفرحه وطمأنينته وسكونه، والله المستعان! وعليه التكلان، ما حقيقةٌ كخيال.

هذا دأب المهتدي حقيقةً في السير إلى الله، كلما رفعت له منزلة سار إليها واشتغل بها، حتى تلوح له منزلةٌ أخرى، ولم يزل هذا دأبه حتى ينتهي سيره، فإن رأيت العلماء رأيته بذاته معهم، وفي سمتهم وعلمهم وزيهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين والمحسنين رأيته معهم، وإن رأيت العاكفين الخاشعين المخبتين رأيته معهم:

كالليث يسرف في الفعا ل وليس يسرف في الزئير

ما حقيقةٌ كخيال.

هداية الحقيقة تمثيلٌ للدين في تصريف شئون الحياة، واستخلافٌ للمهتدين في الأرض، وتبديل للخوف بالأمن، وعدٌ واقعٌ ماله من دافع، إنه وعد الله، ووعد الله حق، ولن يخلف الله وعده، قال الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:٥٥] وعدٌ من الله للعصبة المهتدية في كل عصر، وسنةٌ من الله: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح:٢٣].

إذا لم يكن الغيث هامياً؛ فلا ترج أن يكون النبت نامياً؛ فما حقيقةٌ كخيال، وما آلٌ كبلال.