[تنبيهات لكل داعية]
فادع الله يا طالب العلم محتسباً أجرك على الله أكرم الأكرمين.
أقول لك: يا طالب العلم! يا أيها الداعية إلى الله! لابد أن تضع نصب عينيْك بعض الأمور الغير مرتبة:
أولاً: أن الحكمة مطلوبة، وهي وضع الشيء في موضعه: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:١٢٥] فالشدة في موضعها حكمة، والرفق في موضعه حكمة، وما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مُضِرٌ كوضع السيف في موضع الندى.
ثانياً: رَبِّ نفسك وربِّ الناس، وابنهم على صغار العلم قبل كباره؛ فإن غذاء الكبار -كما يقال- سم الصغار، فلو قدمت لقمة لحم لرضيع لربما تقتله فلينتبه لذلك.
فلا بد من التدرج في طلب العلم؛ فالقفزات المحطمة لا خير فيها.
ثالثاً: تحديد الهدف، مع الدراسة والتخطيط لاتخاذ الوسائل المناسبة الموصلة إلى الهدف، ومثل الذين يعملون من غير تحديد لأهدافهم كمثل إنسان يضرب في الصحراء دون أن يكون معه دليل يرشده أو قائد يهديه، ولا شك أنه سيظل يسير حتى يَمَلَّ السير، ويضرب في الأرض حتى يضطرب ويختل، وعندئذٍ يتمنى لو يعود من حيث أتى، وهيهات هيهات! ولاشك أن الهدف هو نشر دين الله في الأرض كما أمر؛ فلابد من وسائل صحيحة سليمة ومقدمات معينة توصل للهدف المطلوب، وهي غير خافية على المسلم البصير.
رابعاً: ليس كل ما يعرف يقال، ولكل مقام مقال: [[حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله؟!]].
خامساً: علينا أن نتعرف على طبيعة الأرض قبل أن نحرث فيها الحرث؛ بمعني أن نكون على معرفة بأحوال المدعوين النفسية، وظروفهم الاجتماعية، ودراسة البيئة التي ندعو فيها، وخير قدوة لنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان على علم بالأفراد؛ فتعلمون في صلح الحديبية يوم يأتي أحد المشركين للصلح، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: هذا رجل فاجر، فكان كما قال صلى الله عليه وسلم، ولم يحصل معه شيء.
قال: ويأتي آخر، فيقول صلى الله عليه وسلم: {هذا رجل متألِّه ابعثوا الهدي في وجهه}، فبعثوا الهدي في وجهه، فرجع وهو يقول: ما كان لمثل هؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت، ويأتي سهيل، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {سَهُل أمرُكم}؛ فكان الصلح.
بل إنه صلى الله عليه وسلم هو الأسوة، كان يدرس نُظُم الحُكم والبيئات التي حواليه، فيقول لأصحابه: {إن في الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد} فيأمرهم بالهجرة إليه، ويقول لـ معاذ: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله}.
سادساً: لا يعول على الكثرة من الجماهير في الرخاء وقت الشدة، بل ليكن التعويل على أصحاب السوابق، يا أهل سورة البقرة، ويا أهل بيعة الشجرة.
سابعاً: المنبر من أعظم وسائل الدعوة إلى الله، لكنه ليس الوسيلة الوحيدة؛ فهناك الرسائل، وهناك الهاتف والملصقات والكتب واللقاءات والأشرطة، وما الأشرطة؟ مالئة الدنيا ونافعة الناس، قال فيها أحد العلماء:
وفي كل وقت مضى آية وآية هذا الزمان الشريط
ولن يعدم قاصد الخير الوسائل الشرعية إن خطط ودرس وأخلص وصدق.
ثامناً: الترفع عن مجاراة السفهاء؛ إذ كيف يجاري العالم السفيه؟ وكيف يعامل الحليم من فقد الحلم؟ وكيف يباري الخَلُوقُ سيء الخلق؟ إنه إقحام للنفس في ميدان لا تضمن فيه السلامة، ولا تؤمن فيه العاقبة؛ فأمسك -أيها الداعية ويا طالب العلم- عن مخاطبة السفهاء، ومجاراة السفهاء، والتورُّط معهم، فهم موجودون في كل عصر، وهم موجودون في كل بيئة، مشاغبون مع كل داعية، لا يخلو منهم جيل، ولذا نبه القرآن الكريم على خطرهم، وحذر عن مجاراتهم ومناقشاتهم فقال: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:١٩٩].
تاسعاً: لا تلتفت إلى الوراء؛ فإن وراء الداعية نعيقاً وعواءً للباطل لو التفت إليه لربما تأثر به، ولربما ضعف سيره به وانشغل به، عمَّا هو أهم منه، ولذا ضرب ابن القيم عليه رحمة الله مثلاً للملتفت لنعيق الباطل بالظبي، ومثل أهل الباطل بالكلب، فيقول: الظبي أشد سعياً من الكلب، لكن الظبي إذا أحس بالكلب وراءه التفت إليه، فضعف سعيه، فأدركه الكلب، وهو أبطأ منه؛ فالسالك لهذا الطريق ليس في وقته متسع لتشتيته هنا وهناك؛ فكيف يتأثر بأقاويل وادعاءات المبطلين، فإذا وثقت بالطريق الذي تسير فيه وصاحوا لك في طريق سَيرك فلا تلتفت إليهم.
عاشراً: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، لا تأخذ العلم من صاحب هوى أو من غافل: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:٢٨].
أخيراً: -وقد أطلت في هذه النقطة لأهميتها- لابد للطلب والدعوة من صبر عظيم كصبر الجماد، وليكن معزيك ما يجده الصابر عند ربه يوم يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، إن المريض ليتجرع الدواء المرَّ لا يكاد يسيغه؛ أملاً في حلاوة العافية ولو بعد حين.
صبرت ومن يصبر يجد غبِّ صبره ألذ وأحلى من جنى النحل في الفم