[قصة شاب اهتدى بسبب حادثة]
عبد الله! قف على ساحل بحرٍ لجي من العبر والمثلات؛ في صياغة الهداية على الحقيقة للمرء صياغةً جديدة، قفها مع أحد التائهين يذكر قصة هدايته كما أوردها القاسم حفظه الله، ومضمونها ما يلي في تصرف: في أيام العشر الأواخر من رمضان العيد قاب قوسين أو أدنى، لا أعرف أين أذهب، أنتظر صديق الطفولة بلهفة، الجزء الأكبر من وقتنا ليلاً نقضيه في جولات بين الأسواق والتجمعات والشوارع، وفي النهار نلزم المضاجع، وجاء عبد الرحمن، وركبت معه، وسألني: هل جهزت ثوباً جديداً لقد أقبل العيد؟ قلت له: لا، قال: نذهب للخياط الآن، قلت: بقي ثلاثة أيام أو أربعة على العيد، أين نجد خياطاً يسابق العيد؟ انطلق بنا في سيارته، لم يكلمني حتى توقف أمام خياط، وفاجأني بالسلام الحار على ذلك الخياط، فهو يعرفه منذ زمن، قال له: نريد أن نفرح بالعيد، ونلبس الجديد، فضحك الخياط، وقال له: كم بقي على العيد؟! لماذا لم تأت مبكراً؟ قال عبد الرحمن، وهو يهز يده بحركة تفيد: سنزيد لك في الأجرة، المهم أن ينتهي بعد غد نعم بعد غد.
ويدفع جزءاً من الثمن وهو يردد: بعد غد، لا تنس الموعد.
قال: وإلى قبيل الفجر ونحن لاهون ساهون غافلون، مضت الليلة كاملة لم نذكر الله فيها مرة واحدة، ولربما كانت ليلة القدر، حياةٌ لا طعم فيها، وسعادةٌ لا مذاق لها.
أعيش في قلقٍ حيران مضطربا وإن تخلني هنيء العيش منشرحا
ولجنا المعاصي من كل باب، وهتكنا منها كل حجاب، وفي القلب همٌ وغمٌ ونكدٌ وحسرات، ونظهر السعادة، ونملأ المكان بالضحكات.
أعمالنا تكشفنا وتفضحُ ما في الوعا على الوعاء ينضحُ
افترقنا قبيل الفجر، يجمعنا الليل والسهر والعبث، ويفرقنا النوم الطويل الذي يمتد من الفجر إلى العصر، صيامٌ بلا صلاة، وصلاة بلا خشوع، ساعات الصيام التي أستيقظ فيها قبل المغرب كأنها أيام أقطعها بالمكالمات الهاتفية العابثة، وقراءة الصحف الهابطة، وبينا أنا أنتظر موعد أذان المغرب حادثني بالهاتف أحد الأصدقاء، وصوته متغير، يقول: أما علمت أن عبد الرحمن مريض؟ قلت له: لا مساء البارحة إلى الفجر وهو معي كان بصحةٍ وعافية، قال: إنه مريض وأنهى المكالمة.
والأمر لا يعني لي شيئاً سوى معلومةٍ غير صحيحة، فأنا معه إلى الفجر، وإذا بالمؤذن يرفع أذان العشاء، وإذا بالهاتف يرن، إنه شقيق عبد الرحمن الأكبر، قلت في نفسي: إنه سيؤنبني على ما أفعله أنا وعبد الرحمن، فلعل أحداً أخبره بزلةً من زلاتنا وسقطاتنا
ويأتي صوته منهكاً مجهداً، عبراته تقطع الحديد، وأخبرني الخبر، وياله من خبر! مات عبد الرحمن!!
لا إله إلا الله!! دهشت لم أصدق لا أزال أراه أمامي، صوته يرن في أذني، كيف مات؟!! قال: وهو عائدٌ إلى المنزل ارتطم بسيارة أخرى قادمة، وحمل إلى المستشفى، وفارق الحياة ظهر اليوم، وسنصلي عليه الظهر غداً، أخبر زملائك وقفل الهاتف، أذني لا تكاد تصدق ما تسمع، الليل موعدنا في سوق كذا، وغداً موعد ثياب العيد، لا إله إلا الله! الأمر جدٌ لا هزل فيه، انقضت أيام عبد الرحمن، والموت حق، وغداً موعدنا هناك في المقبرة لا عند الخياط، لقد ألبس الكفن وترك ثوب العيد، عبرٌ تثار، وعبراتٌ تسيل، تسمرت في مكاني، تشتت ذهني، أصبت بدوار في رأسي، التراب يابس، والمرعى عابس، قررت الذهاب إلى منزل عبد الرحمن لأستوضح الفاجعة، ركبت السيارة، فإذا شريط الغناء لم يزل في جهاز التسجيل، أخرجته، ثم فتحت الراديو، فإذا إمام الحرم من المذياع يخاطب الجنان لا الآذان، أنصتُّ بكل جوارحي، أرهفت سمعي، لكأن الدنيا انقلبت والقيامة قامت، أوقفت سيارتي أستمع وأستمع، وكأني لأول مرةٍ أسمع القرآن، وبدأ الإمام بدعاء القنوت، كانت دمعاتي أسرع من صوت الإمام، قلبي يردد صدى تلك العبرات ليعلنها توبةً صادقةً في حسرةٍ وتأسفٍ على ما سلف وفات.
كأنما أنا طيرٌ لا جناح له فما استطاع بغير الدمع تبيانا
ميلادٌ جديد، حياةٌ جديدة بدأتها بصحبةٍ طيبة، ورفقةٍ صالحة، لله ما أجمل السير في ركاب الصالحين!! من كرهتهم هم أحب الناس اليوم إلي، من تطاولت عليهم هم أرفع الناس في عيني، من استهزأت بهم هم أكرم الناس عندي، كنت على شفا جرفٍ هارٍ، ولكن الله رحمني:
يا من عليه اعتمادي في الأمر بعضاً وكلا
بك اهتديت ومن لم يرج الهدى منك ضلا
إنها الهداية على الحقيقة، تحولٌ جذري حقيقي.
فاضرب بسهمٍ في سهام أئمةٍ سبقوك في هذا السبيل القيمِ
وافتح مغاليق القلوب لتهتدي وعلى إلهك فاعتمد واستعصمِ
يا ويل كل مفرطٍ مستسلمِ!
قال: وبعد شهرين فاجأت الخياط، وسألت عن ثوبي، فسأل عن عبد الرحمن، قلت له: مات، قال: لا إله إلا الله! عبد الرحمن؟! قلت له: مات، فأعطاني ثوبه، وبدأت أقول في نفسي، وآخذ شريط الذكريات في ذهني: هل حقاً مات؟! ثوبي بجوار ثوبه! مقعدي في السيارة بجوار مقعده! مضى، وبقي لي أجل لعلي أستدرك فيه ما فات، من يهرب من شيءٍ تركه وراءه إلا القبر؛ فما يهرب منه أحدٌ إلا وجده أمامه، ينتظر غير متململ، وأنت متقدم إليه غير متراجع، فانظر ما أنت عامل، يقول: وما هي سوى فترة من الزمن، وهدوء النفس يزداد يوماً بعد يوم، وتقرُّ عيني، وتطرأ السعادة الحقيقية على قلبي، انشراحٌ في الصدر، وسكينةٌ ووقار، وصدق الله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام: ١٢٥] حمدت الله كثيراً، ولكن بقي لي أخ لا يزال على عينيه غشاوة، هل أتركه؟ لا، لن أتركه وقد هداني الله، لا أنسى عبد الرحمن، لا، لن أترك هذا الأخ، وقد هداني الله، هناك كتاب، وهناك شريط، وهناك مطوية، وبيني وبينه نصيحة، والدين النصيحة.
فمن لم يعش بعد بيت هدى شقيٍ وإن بلغ الفرقدا
إذا وجدت النملة ذخيرةً من القوت، أسرعت إلى سربها تحمل لها البشرى، وتأتي بها إلى الغنيمة لترى غزوها وفتحها، ثم يتكاسل ويضعف حامل الهدى!
الهنود يغارون على بقر تهان فتطيح الرقاب، ثم لا يغار المسلم على حرمات دينه ويسعى في تبليغه.
إنه الهوى من أطاعه هوى
شراب الهوى حلوٌ ولكنه يورث الشرغ
أرأيت عبد الله كيف تحولت مقاييس هذا الرجل واهتماماته ونظراته! إنها هداية الحقيقة لا الخيال، تحولٌ جذري، وعزلةٌ شعورية كاملةٌ بين ماضي الإنسان في غوايته وحاضره في هدايته، وإنما يكلّ من كان في ريبٍ من أمره.
هذا السبيل فأين يذهب من أبى؟ أوليس نور الله قد كشف الدجى؟
بلى ما حقيقةٌ كخيال.
الهداية على الحقيقة -معاشر المسلمين- تسرّ صاحبها وترقيه، وتبشره وتهديه، تنفعه وترفعه، فلا يزال يحلق في سماء المعالي حتى لا ينتهي تحليقه دون عليين برحمة أرحم الراحمين، فمن سار مهتدياً على ذكر الحقيقة لا الخيال، رجونا له الوصول وإن طال الدجى:
فأول ما يكون الليث شبلٌ ومبدأ طلعة البدرِ الهلال