هاهو عمر بن عبد العزيز -عليه رحمات رب الجليل- يعود يوماً بعد صلاة العشاء إلى داره -وهوخليفة المسلمين، مقدرات الأمة بين يديه- فيلمح بناته الصغار، فيسلم عليهن كعادته، وكنّ يسارعن إلى تقبيله، لكنهن هَرَبْنَ هذه المرة، وهنَّ يغطين أفواههن، فقال لزوجه: ما شأنهن؟ قالت: لم يكن لديهن ما يتعشين به سوى عدس وبصل، فكرهن أن تشم من أفواههن رائحة البصل، فبكى وأجهش بالبكاء وهو يئن تحت وطأة المسئولية، فميزانية الأمَّة تحت يديه، يقول:[[يا بنياتي! أينفعكن أن تتعشين أطيب الطعام والشراب، وتكتسين أجمل الثياب من مال الأمة، ثم يُأمر بأبيكن إلى النار؟]] قلن: لا.
لا.
ثم اندفعن يبكين.
فلا والله لا تسمع في البيت إلا الخنين والأنين.
لما حلَّت به سكرات الموت -عليه رحمة الله- دخل عليه مسلمة وقال: لقد تركت أبناءك فقراء جوعى فأوصِ بهم إليَّ أوإلى أحد من أهل بيتك، وكان مضطجعاً قال: أسندوني، ثم صرخ:[[والله! ما منعت أبنائي حقاً لهم، والله لن أعطيهم ما ليس لهم، أما أن أوصي بهم إليك أوإلى غيرك فلا، إن وصيَّ ووليَّ فيهم الله الذي نزل الكتاب وهويتولى الصالحين، إن بنيَّ أحد رجلين؛ إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وإما رجل مكبٌّ على المعاصي فوالله لم أكن لأقويه على معصية الله]].
ثم طلب جميع أولاده -وهم بضعة عشر- فاجتمعوا، فنظر إليهم، ثم ذرفت عيناه دموعاً حارةً، وقال: [[أفديكم بنفسي أيها الفتية الذين تركتهم فقراء لا شيء لهم، يا بني! إن أباكم خُيِّر بين أن تستغنوا ويدخل النار، أوتفتقروا ويدخل الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل النار، إن وليَّي فيكم الله الذي نزل الكتاب وهويتولى الصالحين، ثم تلا قوله تعالي:{تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا للذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوا فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[القصص:٨٣]]].