[نماذج من الصحابة في علو الهمة تشحذ العزائم على العلم والعمل والدعوة]
في مؤتة خرج جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه زيد وجعفر وابن رواحة رضي الله عن الجميع؛ هدفهم إنْ هي إلا إحدى الحسنييْن؛ إما النصر أو الشهادة في سبيل الله؛ فلما ودعهم المسلمون قالوا: صحبكم الله بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقام عبد الله بن رواحة وقال:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذاتَ فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
ولما رأى المسلمون جموع الروم جموعًا كبيرة نظروا في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا، فقام ابن رواحة فقال: يا قوم! والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، وما نقاتل الناس بعدد ولا عدة، إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلِقوا؛ إنْ هي إلا إحدى الحسنيين.
تلذ له المروءة وهي تؤذي ومن يعشق يلَذُّ له الغرام
فقاتل القوم وعليهم زيد، فلم يزل يقاتل، حتى شاط في رماح القوم، وخرَّ صريعًا رضي الله عنه وأرضاه.
أخذ الراية جعفر فقاتل بها، حتى إذا أرهقه القتال، اقتحم عن فرسه فعقرها لئلا ينتفع بها العدو، ثم قاتل، وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أَنسابها
علي إذ لاقيتها ضرابها
فقُطعت يمينه، فأخذ الراية بيساره، فقطعت، فاحتضن الراية، حتى قتل كالأسد؛ رحمة الله على ذاك الجسد.
ثم أخذها ابن رواحة كالليث، ونالته الجراح، وأي جراح؛ فحاله:
هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقد لقيت إن تفعلي فعلهما هديت
وإن تأخرت فقد شقيت
ثم قام ثابتًا رضي الله عنه وأرضاه حتى قتل، فأخذ الراية سيف الله خالد ففتح الله على يديْه.
أخرجوا الدنيا من قلوبهم، وقطعوا أسباب التعلق بها عن أنفسهم، فكان الاقتحام، وكانت الشهادة، وكان الفوز بالجنة، وهكذا أمر العاقل اللبيب، لا يبيع الياقوت بالحصى، ولا يرى لنفسه ثمنًا إلا الجنة.
الطريق شاق وتكاليفه عوائق، فمن لم يجمع همته، ويعلي إرادته، ويقوي عزيمته، ويتخفف من دنياه؛ فلن يستطيع بلوغ أهدافه وغايته:
ومنْ تكن العلياءُ همَّة نفسهِ فكل الذي يلقاهُ فيها محبَّبُ
ولم يتأخرْ من أراد تقدُّمًا ولم يتقدم من أراد تأخُّرا
ويذكر الذهبي في سيره أن نور الدين الشهيد، لما نزل الصليبيون دمياط، بقي عشرين يوماً صائمًا لا يفطر إلا على الماء، فضعف وكاد يتلف، ولما الْتقى العدو، وخاف على الإسلام، انفرد في ناحية من الجيش، ومرَّغ وجهه في التراب، وقال: يا رب! من نور الدين؟! الدين دينك، والجند جندك، وافعل يا رب ما يليق بكرمك، فنصره الله نصرًا مؤزرًا.
كان ذا همة عالية، كان هدفه وهاجسه فتح بيت المقدس وتطهيره من الصليب، قام في حلب بعمل منبر عظيم، لينصبه في بيت المقدس حينما يفتحه، وكان الناس يسخرون منه يوم يمرون عليه وهو يفعل ذلك، فلم يلتفت إليهم، وحاله كحال نبي الله نوح يوم يصنع الفلك، وكلما مر عليه ملأ سخروا منه، كان يريد بذلك المنبر بث الروح وبعث الهمم وتبديد اليأس المخيم على القلوب، ولقد حقق الله له أمنيته، وفُتح بيت المقدس ونُصب فيها منبره بعد وفاته، نصب على يديْ تلميذه صلاح الدين، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة.
والسيف يبلغُ ما لا تبلغ الكلمُ
هذي العزائم لا ما تدَّعي الخطب هذي المكارم لا ما قالت الكتب
وهذه الهمم اللاتي متى خطَبَتْ تعثرت خلفها الأشعار والخُطبُ
والصارم العضب الذي فتح الورى ما زال في يد أهله مسلولا