[إرضاء الناس غاية لا تدرك]
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن إرضاء الناس غاية لا تدرك؛ فإرضاء البشر ليس في الإمكان أبداً؛ لأن علمهم قاصر، ولأن عقولهم محدودة، يعتَوِرُهم الهوى، ويعتَوِرُهم النقص، ويتفاوتون في الفهم والإدراك، فلا يمكن إرضاؤهم.
فمَن تُرضي إذاً؟ أرض الله جل وعلا وكفى.
هاهو رجل يبني له بيتاً، فيضع الباب جهة الشرق، فيمر عليه قوم، فقالوا: هلا وضعته جهة الغرب لكان أنسب.
فيمر آخرون ويقولون: هلا وضعته جهة الشمال لكان أجمل.
ويمر آخرون، فيقولون: هلا وضعته جهة الجنوب لكان أنسب.
وكلٌ له نظر، ولن ترضيهم جميعاً، فأرض الله وكفى.
هاهو رجل وابنه ومعهما حمار، ركب الأب وترك الابن ومشيا، فمروا على قوم، فقالوا: يا له من أب ليس فيه شفقة ولا رحمة، يركب ويترك هذا الابن المسكين يمشى وراءه! فما كان منه إلا أن نزل، وأركب هذا الطفل، ومشى، فمر على قوم آخرين، فقالوا: يا له من ابن عاق يترك أباه يمشي وراء الدابة وهو يركب الدابة!، فركب الاثنان على الدابة، ومروا على قوم آخرين، فقالوا: يا لهم من فجرة حمَّلوها فوق طاقتها! فنزل الاثنان ومشيَا وراء الدابة، فمروا على قوم، فقالوا: حمقى مغفلون يُسخر الله لهم هذه الدابة، ثم يتركونها تمشي ويمشون وراءها!
{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} [المؤمنون:٧١].
من ترضي أخي في الله؟ أرض الله وكفى، من أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عليه وأرضى عنه الناس.
ومن أرضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس.
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
أما إرضاء رب الناس فهو الممكن بل هو الواجب؛ لأن سبيل الله واحد؛ ولأن دينه واحد: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) [الأنعام:١٥٣].
يذكر الشيخ عمر الأشقر في كتابه: مواقف حدثاً يناسب هذه النقطة: يذكر أن طفلة صغيرة تعود لأمها من المدرسة ذات يوم، وعليها سحابة حزن وكآبة وهمٍّ وغمٍّ، فتسألها أمها عن سبب ذلك؟ فتقول -وهي من بيت محافظ-: إن مُدرستي هددتني إن جئت مرة أخرى بمثل هذه الملابس الطويلة، فتقول الأم: ولكنها الملابس التي يريدها الله جل وعلا، فتقول الطفلة: لكن المُدرسة لا تريدها.
قالت الأم: المُدرسة لا تريد والله يريد، فمن تُطيعين إذاً، الذي خلقك وصوَّرك وأنعم عليك، أم مخلوق لا يملك ضراً ولا نفعاً؟ فقالت الطفلة بفطرتها السليمة: لا.
بل أطيع الله، وليكن ما يكون.
وفي اليوم الثاني تلبس تلك الملابس، وتذهب بها إلى المدرسة، ولما رأتها المعلمة انفجرت غاضبة، تؤنب تلك الفتاة التي تتحدى إرادتها، ولا تستجيب لطلبها، ولا تخاف من تهديدها ووعيدها، وأكثرت عليها من الكلام، ولما زادت المعلمة في التأنيب والتبكيت، ثقل الأمر على الطفلة البريئة المسكينة، فانفجرت في بكاء عظيم شديد مرير أَلِيم، أذهل المعلمة ثم كفْكفتْ دموعها، وقالت كلمة حق تخرج من فمها كالقذيفة، فتقول: والله! لا أدري من أطيع؟ أنت أم هو؟ قالت المعلمة: ومن هو؟ قالت: الله رب العالمين، الذي خلقني وخلقك وصوَّرني وصوَّرك، أو أطيعك، فألبس ما تريدين، وأغضبه هو.
أم أطيعه وأعصيك أنت؟، لا.
لا.
سأطيعه، وليكن ما يكون.
إذا لم يكن إلا الأسنةُ مركباً فما حيلةُ المضَّطر إلا ركوبُها
ذهلت المعلمة، وشُدِهت وسكنت، وهل هي تتكلم مع طفلة أم مع راشدة؟ ووقعت منها الكلمات موقعاً عظيماً بليغاً، وسكتت عنها المعلمة.
وفي اليوم التالي تستدعي المعلمة أمَّ البنت، وتقول لها: لقد وعظتني ابنتك أعظم موعظة سمعتها في حياتي، لقد تبت إلى الله، وأُبت إلى الله، فقد جعلت نفسي نداً لله حتى عرفتني ابنتك من أنا.
فجزاكِ الله من أم مربية خيراً.
وهنا أقول: يا أيها الأحبة! ما أحوجَنا إلى أن نرضي الله جل وعلا، وأن نعرف أن الحق إنما يصل إلى القلوب إذا خرج من القلوب التي تؤمن به، وتعمل بمقتضاه، أما الكلمات الباردة فلن تؤثر في السامعين أبداً؛ ألا فأرضِ الله جل وعلا وكفى.
فلست بناجٍ من مقالةِ طاعنٍ ولو كنتَ في غارٍ على جبلٍ وعرِ
ومن ذا الذي ينجو من الناسِ سالماً ولو غاب عنهم بين خافقتي نسر
(وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ) [الأنعام:١١٦] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف:١٠٣].