للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة النفس البشرية]

علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن النفس البشرية كالطفل تماماً.

إن أدبتها وهذَّبتها صلحت واستقامت، وإن أهملتها وتركتها خابت وخسرت، بل هي كالبعير إن علفتها وغذيتها بالمفيد سكنت وثبتت واطمأنت وخدمت، وإن تركتها صدَّت وندَّت وشردَت.

النَّفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات واللذات والهوى، وتأمر بالسوء والفحشاء، إذا لم يقيدها وازع ديني عظيم؛ تنقاد إلى السقوط والهلاك:

والنَّفْسُ كالطفل إن تُهمله شبَّ على حبِ الرَّضَاعِ وإن تفطمه ينفطمِ

فخالف النفسَ والشيطانَ واعصهما وإن هما محضاكَ النصحَ فاتهمِ

وإصلاح نفسك بمَّ يكون يا أيها الحبيب؟

بالمجاهدة: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:٦٩]

يقول ثابت البناني عليه رحمة الله: تعذبت بالصلاة عشرين سنة -يجاهد نفسه عشرين سنة ليصلي لله في بيوت الله- قال: ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى، والله إني أدخل في الصلاة فأحمل هَمَّ خروجي منها.

وأعظم المجاهدة مجاهدة النيات: {فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى} (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا) [الكهف:١١٠].

يقول أحد السلف: ما من فعلة صغرت أو كبرت إلا ويُنشَر لها ديوانان: لِم؟ وكيف؟

لم فعلت؟ ما علة الفعل؟ وما باعث هذا الفعل؟ هل لحظ دنيوي؟ لجلب نفع؟ لدفع ضر؟ أم لتحقيق العبودية لله وابتغاء الوسيلة إليه سبحانه وبحمده؟ هل فعلت هذا الفعل لمولاك أم لحظِّك وهواك؟

وكيف فعلت هذا الفعل؟ هل العمل مما شرعه الله ورسوله؟ أم ليس عليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم القائل: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} فأعظم ما يربي النفس مجاهدة النية.

يقول سفيان: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي.

يا نفس! أخلصي تتخلصي، إخلاص ساعةٍ نجاة الأبد، ولكن الإخلاص عزيز.

طوبى لمن صحت له خطوة يُراد بها وجه الله تعالى.

هاهو ابن الجوزي عليه رحمة الله الذي لطالما جاهد نيته تحلُ به سكرات الموت، فيشتد بكاؤه ونحيبه، فيقول جُلاسه: يا إمام! أحسن الظن بالله، ألست من فعلت، ومن فعلت؟ قال: والله ما أخشى إلا قول الله: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا) [الزمر:٤٧ - ٤٨] أخشى أن أكون فرطت وخلطت ونافقت، فيبدو لي الآن ما لم أكن أحتسب، وتبدو لي سيئات ما كسبت، وهو الذي يقول عن نفسه كما في صيد الخاطر: لقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتيْ ألف، وأسلم على يديْ أكثر من مائتيْ نفس، وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل!

ويحق لمن تلمَّح هذا الإنعام أن يرجو التمام، ولكم اشتد خوفي بنظري إلى تقصيري وزللي، لقد جلست يوماً واعظاً فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف، ما منهم من أحد إلا رقَّ قلبه، أو دمعت عينُه، قال: فقلت في نفسي: كيف بك يا بن الجوزي! إن نجا هؤلاء وهلكت؟ كيف بك يا بن الجوزي! إن نجا هؤلاء وهلكت؟ ثم صاح: إلهي ومولاي وسيدي إن عذبتني غداً فلا تخبرهم بعذابي، لئلا يُقال عذب الله من دعا إليه، عذب الله من دل عليه، إلهي -وأنت أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين- لا تخيب من علق أمله ورجاءه بك، وخضع لسلطانك، دعا عبادك إلى دينك ولم يكن أهلاً لولوج باب رحمتك، لكنه طامع في سعة جودك ورحمتك، أنت أهل الجود والكرم.

فأخلصوا تتخلصوا.

طوبى لمن صحت له خطوة يراد بها وجه الله تعالى.