[اختلاط المشارب والغبش الحاصل في الطريق]
الحمد لله الذي نشر بقدرته البشر، وصرَّف بحكمته وقدَّر، وابتعث محمداً إلى كافة أهل البدو والحضر، فأحلَّ وحرَّم وأباح وحظر؛ لا يغيب عن بصره وسمعه دبيب النمل في الليل إذا سرى، يعلم السرَّ وأَخفى، ويسمع أنين المضطَّر ويرى، لا يَعزُب عن علمه مثقال ذرةٍ في الأَرض ولا في السَّما.
اصطفى آدم ثم تاب عليه وهدى، وابتعث نوحاً فبنى الفلك وسرى، ونَجَّى الخليل من النار فصار حرُّها ثرى، ثمَّ ابتلاه بذبحِ ولده فأدهش بصبره الورى.
أَحْمده ما قُطِع نهار بسير وليل بسُرى، أحمده حمداً يدوم ما هبَّت جنوب وصَبَا.
وأصلِّي وأُسلِّم على رسول الله محمد، أشرف الخلق عَجماً وعَرباً، المبعوث في أم القرى، صلوات الله عليه وسلامه ما تحركت الأَلْسن والشِّفا، وعلى أبي بكر الذي أنفق المال وبذل النفس وصاحبه في الدار والغار بلا مِرَا: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠] وعلى عمر الذي من هيبته ولَّى الشَّيطان وهربا، من أغَصَّ كسرى وقيصر بالرِّيق وما وَنَى، وعلى عثمان مجهز جيش العُسْرة زوجُ ابنتيه ما كان حديثاً يفترى، حيَّته الشهادة فقال: مرحباً، وعلى علي أَسد الشرى، ما فُلَّ سيف شجاعته قط ولا نبا، وعلى جميع الأَهل والآل والأصحاب والأتباع ما تعاقب صبح ومسا:
صلَّى الإلهُ ومنْ يَحُف بِعْرشه والطَّيبُون على المُبَارك أحمَدا
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أحبتي في الله: إنَّ الإسلام عقيدة استعلاء، تبعث في روح المسلم إحساس العزة من غير كِبْر، ورُوح الثِّقة في غير اغترار، وشعور الاطمئنان في غير تَوَاكل، عقيدة تبعث فيه روح الاستهانة بالمظاهر الجوفاء، والاهتمام بالحقائق الناصعة البيضاء، عقيدةٌ تعلمه كيف يتغلب على شهوات النفس ومألوفات الحياة في سبيل الله، تُعلمه نِسيان حظوظ النَّفس في سبيل إعلاء دين الله، تُعلمه كيف يستقبل الشدائد في سبيل الله بثغرٍ باسمٍ، ونفسٍ هانِئة مطمئنة، عقيدة تُشعر المؤمن بالتَبِعة المُلقاة على كاهله، تبعة الدعوة للبشرية الضَّالة، لانتشالها من الضَّلالة إلى الهداية، وإخراجها من الظُّلمات إلى النور: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران:١١٠] فسبحان من قدَّمنا على الناس، وسقانا من القرآن أروى كاس، وجعل نبينا أفضل نبي رعى وساس، وأنعم علينا بعلو الهمة وقال لنا: {كُنْتُم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:١١٠].
مَنْ تأمل وتدبر ونظر؛ وجد الأمة قد مرت بها فترات خَيْرِية، كانت فيها هادية الناس إلى باريها، قائدة رائدة:
كتيبةٌ زيَّنها مَولاها لا كَهْلها هُدَّ ولا فَتَاها
وفي العُصور المُتأَخرة تمرُّ بالأمة فترة عصيبة كادت تفقد فيها هويتها؛ لتصبح تابعةً مسخاً إمَّعة، فإذا المسلم يُجِيل نظره في رُقعة العالم الفسيح، فيرتَّد بصره خاسئاً وهو حَسِير، يوم يرى جموعاً تسير في دروب متشابكة متعرجة في ليل بهيم، تَسِير وتَسِير، ويُضْنيها المسير، ثم لا تصل إلى البحر الذي تريد، تُحدِّد أهدافاً، وتقصد غاياتٍ، ولمَّا تظن أنْها قاربت أهدافها، تُفاجأ بأن الأهداف سراب خادع، ويُطمئنك أنه في وسط تلك الدروب ترى طريقاً واحداً مستقيماً، لا ينحرف يميناً ولا شمالاً، تهب عليه الأَعاصير، تكاد معالمه تَنْدثر، فإذا بأقوام يقومون بكشف الرِّمال عنه من جديد، يُوضحون معالمه، ويجددون رسومه، يقلون على هذا الطريق ويكثرون، لكنه لا يكاد يخلو من سائر يُقيضه الله بمَنِّه وكرمه؛ ليرد على الأمة في ذاك الطريق إيمانها بدينها، ويصحح مسارها، ويُعِيد لها ثِقَتها بطريقها؛ لتفهم رسالتها؛ من مُصْلحين وأَئِمة يتعاقبون فيها إلى يومنا هذا كـ ابن عبد الوهاب رحمه الله وغيره ممن يريدون العزيز الوهاب، يُثْبتون أن الأمة كالمطر لا يُدرى أوله خير أم آخره، ولذا صَوَّت حادي المصلحين في ظلام الليل البهيم على ذاك الطريق:
إنَّ هذا العصرَ ليلٌ فأَنِر أيُّها المسلمُ ليلَ الحائرين
وسَفِينُ الحقِ في لُجِّ الهَوى لا يُرى غيرَك ربَّانَ السَّفِين
وتجاوبت بالصَّدى الأرجاء، وأقبل الناس على دين الله من كل حَدْب وصَوب على ذاك الطريق، والحمد لله رب الأرض والسماء؛ فما من أرض إلا وقد وصلتها الصحوة المباركة، رغم الكبت والتضليل والحصار، فالهُتاف يملأ الأنحاء، ويشق عنان السَّماء: أنَّا لا نريد غير الإسلام عقيدةً وشريعةً ومنهجاً:
وهاتف الكل أن الله غايتنا فنحن لا نبتغي جاهاً وسلطاناً
وإنما نبتغي للنَّاس قاطبةً خيراً ومنفعةً دوماً وإحساناً
هُتاف يستحث كل مسلم غيور، أو مُتَبلدٍ ويُذَكِّره بأن مسئوليته ضخمةٌ، وأنه يملك بصيرةً تجعله جديراً أن يكون له نصيب من التوجيه والتربية والحُداء للركب السائر على ذاك الطريق.
هُتافٌ يصرخ: الزَّمن يُسرع، ولا انتظار لبطيءٍ أو متثاقلٍ أو قاعدٍ، ومَنْ يَنْفر مع بزوغ الفجر فسيسبق من توقظه الشمس؛ لأن الطريق سيزدحم.