[أبو عقيل الأنصاري وإيثاره الآخرة على الدنيا]
لما كان يوم اليمامة، واصطف الناس، وبدأ القتال، رُمِي أبو عقيل الأنصاري رضي الله عنه بسهم فوقع بين منكبه وفؤاده في غير مقتل، فأُخْرِج السهم ووهن له شقه الأيسر، وجُرَّ إلى الرَّحْل، ولما حمي القتال وانهزم المسلمون في أول المعركة، وهو واهن من جرحه، سمع معن بن عدي يصيح: [[يا للأنصار، الله الله والكرة على عدوكم، يقول ابن عمر رضي الله عنهم: فنهض أبو عقيل يريد قومة، فقلت: ما تريد ما فيك قتال؟! قال: قد نوَّه المنادي باسمي يا ابن عمر، فقال ابن عمر: إنما يقول: يا للأنصار! ولا يعني: الجرحى، فقال أبو عقيل: لقد نوَّه المنادي باسمي وأنا من الأنصار، ولا والله الذي لا إله إلا هو لأجيبنه ولو حبواً]].
إن الطيور وإن قصصت جناحهاتسمو بفطرتها إلى الطيرانِ
يقول ابن عمر: [[فتحزم أبو عقيل وأخذ السيف باليمنى، ثم جعل ينادي: يا للأنصار! كرة كيوم حنين كرة كيوم حنين، يا خيل الله اثبتي، وبالجنة أبشري]].
يتقدم الصفوف محرضاً والحرب تقذف تياراً بتيارِ
...
كالماء أعذب ما يكون وإنه لأشد ما يصبو على النيرانِ
يقول ابن عمر: [[فنظرت إليه وقد قطعت يده المجروحة من المنكب ووقعت على الأرض، وبه من الجراح أربعة عشر جرحاً كلها خلصت إلى مقتل، وهو صريع في آخر رمق، وقد هزم الله عدوه ونصر جنده، فوقفتُ عليه، وقلت: أبا عقيل فقال بلسانٍ ملتاث: لبيك! لمن العاقبة؟ قلت: أبشر قد قُتِل عدو الله، فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله، ثم لقي الله]].
صامتاً ليس يطيل الكَلِمَا وهو بالصمت يربي الأمما
...
فلولا احتقار الأسد شبهتها به ولكنها معدودة في البهائمِ
...
ما كان للزهرات لولا أنها هتكت حجاب الكُم أن تتوردا
قد قيدوك فما أطقت قيودهم والحر يأبى أن يعيش مقيدا
علم أن الدنيا بأسرها قليلة، وبقاءها من أولها إلى آخرها قليل، ونصيبه من هذا القليل قليل، ورأى غيره يبذل روحه ليظفر بقدر قليل من هذا القليل في بقاء قليل، فبذل أعز ما يبذله نفسَه، وحالُه: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:٨٤].
لم يدخر نفساً ولا مالاً وقد باعهما لله والله اشترى
ما ضره ما أصابه يوم يجبر الله مصيبته بالجنة بمنِّه!
فبعد هذا الظل يا بلبل ماء وهوا
وجنة أخرى يطيـ ـب في رياضها الحيا
بهذه الموازين خرجوا من الجزيرة ليبلغوا رسالة الله، وليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام -على حد قول ربعي رضي الله عنه- فواجَهوا حضارات مادية رقت حواشيها، وطالت ذيولها، وبلغت في البذخ درجة الخيال.
كان أحدهم إذا انتطق بمنطقة قيمتها دون مائة ألف درهم يعير ويزدرى ويحتقر، وتتفاداه العيون، ويتوارى من القوم، كما يقول الندوي.
واجه الصحابة هذا كله فركلوه بأقدامهم، ما هو عندهم بشيء، إذْ هم في سجن الدنيا لما ينتظرونه عند الله من الكرامة، رأوا خبزاً رقاقاً لم يروا مثله في الرقة، فحسبوه مناديلاً، فأخذوه في أيديهم فإذا هي أرغفة، ما كانوا يظنون أن الخبز يكون في هذه الدرجة من الرقة والأناقة.
لا يشتهي أحدهم ما لا يجد، وإذا وجده لا يجعله غاية الجد والكد، يتسامون على المظاهر الجوفاء، ويترفعون عن الأخلاق الشوهاء، واعتزازهم بالله رب الأرض والسماء.
ركبوا العزائم واعتلوا بظهورها وسروا فما حنوا إلى نعمان
ساروا رويداً ثم جاءوا أولاً سير الدليل يؤم بالركبان