للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وإن من شيء إلا يسبح بحمده]

إن الكون بكائناته جميعاً يسبح الله، ويثني على الله، ويمجد الله تسبيحاً وثناءً لا نفهمه، الله سبحانه وتعالى يعلمه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)} [الإسراء:٤٤] سبحت الكائنات بحمده فملأ الكون تسبيحها، سبحه النبات جمعه وفريده، والشجر عتيقه وجديده، أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده، سبحته الحيتان في البحار الزاخرات، سبحته الوحوش في الفلوات، تسبحه نغمات الطيور، يسبحه الظل تحت الشجر، يسبحه النبع بين المروج، يسبحه النَور بين الغصون، وسحر المساء وضوء القمر، فسبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.

في الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم قال: {ما تستقل الشمس، فيبقى شيء من خلق الله إلا سبح الله بحمده، إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم} وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، غباء وأي غباء أن يسخر الله لك كل ما حولك بمنه وكرمه، ثم يسبحه كل مسخر لك وأنت غافل غبي أخرس أحمق.

سل الواحة الخضراء والماء جاريا وهذه الصحاري والجبال الرواسيا

سل الروض مزداناً سل الزهر والندى سل الليل والإصباح والطير شاديا

وسل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيءٍ تسمع الحمد ساريا

فلو جم هذا الليل وامتد سرمداً فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا

سبحان الله وبحمده، وسبحان الله العظيم، ليس شيءٍ إلا وهو أضرع لله من بني آدم، الكون كله بكائناته يسجد لله ويخضع ويذل وتبقى فئة من الناس صادةٌ نادةٌ نشازٌ في هذا الكون لا تستحق الحياة، فانظر إلى تلك الحشود -كما يقول سيد قطب رحمه الله- حشد من الخلائق مما يدرك الإنسان ومما لا يدرك، وحشد من الأفلاك مما يعلم الإنسان ومما لا يعلم، حشد من الملائكة، حشد من الجبال والشجر والدواب، حشد من خلق الله كلها في موكب خاشع ذليل تسجد لله وتتجه إليه لا إلى سواه في تناسق ونظام عجيب؛ إلا هذا الإنسان يتفرق فجزء منه يتنكب الموكب نشاز لا يستحق الحياة {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:١٨].

فانظر إلى قهره، وانظر إلى ذل خلقه، كل ما في الكون يأتي خاضعاً ذليلاً ساجداً لله.

يدين له النجم في أفقه يدين له الفلك الدائر

يدين له الفرخ في عشه ونسر السما الجارح الكاسر

تدين البحار وحيتانها وماء سحاباتها القاطر

تدين له الأُسْدُ في غابها وظبي الفلا الشارد النافر

يدين له الذر في سعيه يدين له الزاحف والناشر

تدين النجاد تدين الوهاد يدين له البَرُّ والفاجر

يدين الجلي يدين الخفي يدين له الجهر والخاطر

تدين الحياة يدين الوجود يدين المقدر والحاضر

وكل العباد إليه رجوع وفوق العباد هو القاهر

الشجر والحجر والمدر يلبي ويوحد الله مع الحاج الملبي، ثبت في الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم قال: {ما من ملبٍ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من هاهنا ومن هاهنا}.

تفاعل الكون كله مع توحيد الله عز وجل.

كل كنى عن شوقه بلغاته ولربما أبكى الفصيح الأعجم

بل إن الشجر ليشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى الدارمي بإسنادٍ صحيح كما قال صاحب المشكاة، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: {كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فأقبل أعرابيٌ فلما دنا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، قال: ومن يشهد على ما تقول؟ قال: هذه السلمة -حِجرة السلمة- فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في شاطئ الوادي فأقبلت تهز الأرض حتى قامت بين يديه، فاستشهدها صلى الله عليه وسلم فشهدت ثلاثاً أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، ثم رجعت إلى منبتها} إن في ذلك لآية.

وروى الترمذي أيضاً كما في الصحيحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! بم أعرف أنك نبي؟ قال صلى الله عليه وسلم: إن دعوت هذا العذق شهد أني رسول الله، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ينزل العذق من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم شهد، ثم قال صلى الله عليه وسلم له: ارجع، فرجع إلى مكانه، فقال الأعرابي: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ودخل في دين الله}.

ألم يمر بذهنك وأنت تعلم عبودية الشجر لله ما روى البخاري عن سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها} فاشتاقت نفسك لظل هذه الشجرة فأحسنت التعامل مع الله لتكون من أهلها بإذن الله.