[من عوامل بناء النفس: محاسبة النفس محاسبة دقيقة]
من عوامل بناء النفس: محاسبتها محاسبة دقيقة؛ فالنفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات، إلى اللذات، إلى الهوى؛ فلابد لها من محاسبة، والكل لا يشك أننا إلى الله راجعون، محاسبون على الصغير والكبير والنقير والقطمير.
والأعمال محصاة في سجلات محكمة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:٦] {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْس شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ منْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:٤٧] {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:٩٢ - ٩٣].
ما دمنا نعلم ذلك؛ فمن العقل أن نحاسب أنفسنا في الرخاء قبل الشدة؛ ليعود أمرنا إلى الرضا والغبطة؛ لأن من حاسب نفسه علم عيوبها وزلاَّتها، ومواطن الضعف فيها، فبدأ بعلاجها ووصف الدواء لها، فينمي ذلك في النفس الشعور بالمسئولية ووزن الأعمال والتصرفات بميزان دقيق، ألا وهو ميزان الشرع.
لقد عرف السلف الصالح أهمية ذلك، فحققوها في أنفسهم.
هاهو أحدهم - كما أورد ابن أبي الدنيا بسنده- جلس مع نفسه ذات يوم محاسباً في آخر عمره، نظر وقلَّب وفكر وقدر؛ فإذا عمره ستون عاماً، حسب أيامها فإذا هي تربو على واحد وعشرين ألف يوم وخمسمائة، فصرخ وقال: يا ويلتاه! أألقى الله بواحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة، هذا إن كان ذنباً واحداً؛ فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟! ثم خرَّ مغشياً عليه.
فالمحاسبة تروِّض النفس وتهذبها، وتزيد العمل الصالح، وتولِّد الحياء من الله، وتُلزم خشية الله، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوها قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتَزَيَّنوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:١٨].
والمحاسبة على أقسام: محاسبة قبل العمل: قف عند أول همِّك أو إرادتك العمل، فأسأل نفسك: هل العمل مشروع؟ أقدم وأخلص وجِدَّ وسارع إن كان كذلك، وإن لم يكن: {فمن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد} كما قال صلى الله عليه وسلم.
ومحاسبة أثناء العمل: هل أنت مخلص صادق أم مراءٍ؟ وأنت أعلم بنفسك؛ لأن العمل قد يبدأ وهو خالص لله عز وجل ثم يشوبه شيء من الرياء أثناء أدائه؛ فليُنتبَه للنية فيه.
ومحاسبة بعد العمل وهي على أنواع:
أحدها: محاسبة النفس على طاعة قصرت فيها في حق لله؛ فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي أن توقع، وحق الله -كما تعلمون- في الطاعة ستة أمور:
الإخلاص في العمل.
ثم النصيحة لله فيه.
ثم متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم شهود مشهد الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه.
ثم شهود مِنَّةِ الله عليك في التوفيق لأدائه.
ثم شهود تقصيرك فيه بعد ذلك كله.
أما الثانية: فمحاسبتها على كل عمل كان تركه خيراً لك من فعله.
وأما الثالثة: فمحاسبتها على الأمور المباحة أو المعتادة لِمَ فعلتها؟
ومما يعين على محاسبة النفس معرفة عيوبها، ومن عرف عيبه كان أحرى بإصلاحه.
ومما يعين على معرفة عيوب النفس أمور: ملازمة العلماء الصادقين المخلصين العاملين الناصحين، وكذلك ملازمة الإخوة الصالحين الذين يذكرونك الله ويخوِّفونك حتى تلقى الله -سبحانه وتعالى- آمناً.
والمؤمن للمؤمن -كما تعلمون- كاليدين؛ تغسِّل إحداهما الأخرى، وقد لا يُقلع الوسخ أحياناً إلاَّ بنوع من الخشونة، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة بعد ذلك ما يحمد به ذلك التخشين؛ فاصبر على مرارة التخشين بتعريفك بعيوبك من إخوانك، لتحمد ذلك ولو بعد حين.
ومما يعين على معرفة العيوب، التأمل في النفس بإنصاف وتجرد؛ فمن تأمل في نفسه بإنصاف وتجرُّد عرف عيوبها، فإن عدمت عالماً، وإن عدمت قريناً صالحاً ولم تتأمل في نفسك بإنصاف -وإن شاء الله لا يعدم هؤلاء- فابحث عن عيوبك عند أعدائك، واستفد منهم؛ فالحكمة ضالتك.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
والكيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني.