[الاشتغال بإصلاح عيوب النفس]
علمتني الحياة في ظل العقيدة: ألا أعيب أحداً ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وأن أشتغل بإصلاح عيوبي، وإنها لكبيرة جِد كبيرة، أما يستحي من يعيب الناس وهو معيب؟!
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلُّها كفى المرء نبلاً أن تُعَدَّ معايبه
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
تريد مبرأً لا عيب فيه وهل نارٌ تَفوح بلا دُخَان
هاهو عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله ورضوانه، يختار جلاسه اختياراً، ويشترط عليهم شروطاً، فكان من شروطه: ألا تغتابوا، ولا تعيبوا أحداً في مجلسي حتى تنصرفوا.
السَّهل أسهلُ مسلكاً فدع الطريق الأوعَرا
واحفظ لسانك تسترح فلقد كفى ما قد جرى
هاهو ابن سيرين عليه رحمة الله كان إذا ذُكر في مجلسه رجل بسيئة بادر فذكره بأحسن ما يعلم من أمره، فيذب عن عرضه.
فيذب الله عز وجل عن عرضه، سمع يوماً أحد جلاسه يسبّ الحجاج بعد وفاته، فأقبل مغضباً، وقال: صهٍ يا بن أخي! فقد مضى الحجاج إلى ربه، وإنك حين تقدم على الله ستجد أن أحقر ذنب ارتكبته في الدنيا أشد على نفسك من أعظم ذنب اجترحه الحجاج، ولكل منكما -يومئذ- شأن يغنيه، واعلم يا بن أخي! أن الله عز وجل سوف يقتص من الحجاج لمن ظلمهم، كما سيقتص للحجاج ممن ظلموه، فلا تشغلن نفسك بعد اليوم بعيب أحد، ولا تتبع عثرات أحد:
ومن يتبع جاهداً كل عثرةٍ يجدْها ولا يسلم له الدهر صاحبُ
يا عائب الناس وهو معيب! اتق الله، أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وخواص المسلمين هم العلماء، والوقيعة فيهم عظيمة جد عظيمة، لحومهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالسب بلاه الله قبل موته بموت القلب:
وكم من عائبٍ قولا صحيحاً وآفته من الفَهم السقيمِ
ومن يك ذا فمٍ مرٍ مريضٍ يجدْ مُراً به الماءَ الزلالا
فإن عبت قوماً بالذي فيك مثْلُه فكيف يعيبُ الناسُ من هو أعورُ؟
وإن عبت قوماً بالذي ليس فيهمُ فذلك عند اللهِ والناس أكبرُ
من طلب أخاً بلا عيب صار بلا أخ، ألا فانظر لإخوانك بعين الرضا.
فعين الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلة ولكن عين السخطِ تُبْدي المساويا
وكيف ترى في عين صاحبك القذى ويخفى قذى عينيك وهو عظيمُ
بعض الإخوة ظلمة بعض الإخوة غير منصفين، يرون القذاة في أعين غيرهم، ولا يرون الجذع في أعينهم، فحالهم كقول القائل:
إن يسمعوا سُبّةً طاروا بها فرحاً مني وما يسمعوا من صالحٍ دفنوا
صمٌ إذا سمعوا خيراً ذُكِرت به وإنْ ذُكرت بسوءٍ عندهم أَذِنوا
إن يعلموا الخيرَ أخفوه وإن يَعلموا شراً أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا
طوبى لمن شغلته عيوبه عن عيوب غيره، وكان حاله:
لنفسي أبكي لستُ أبكي لغيرها لنفسي عن نفسي من الناسِ شاغلُ
{والكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأمانيّ}.