للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تنازل صهيب عن ماله من أجل الله]

ثم تجيل نظرك، فإذا أنت بـ صهيب قد أزمع الهجرة للحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يسعه أن يبقى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فجهز له كفار قريش فرقة مراقبة تتابعه؛ لئلا يذهب بماله، وفي ذات ليلة أكثر من خروجه للخلاء للتعمية والتغطية عليهم، فما يلبث أن يعود من الخلاء حتى يخرج مرة أخرى، وهم يراقبونه حتى قال قائلهم: لقد شغلته اللات والعزى ببطنه، فقروا عيناً الليلة.

أسلموا أعينهم للكَرَى مطمئنين، فتسلل صهيب من بينهم، ولم يمضِ غير قليل حتى فطن له أولئك، فهبوا مذعورين قلقين فزعين خائفين، وامتطوا الخيل، وأطلقوا أعنتها خلفه حتى أدركوه، ولما أحس بهم -رضي الله عنه وأرضاه- وقف على مكان عال وأخرج سهامه من كنانته، وهم يعرفون صهيباً وبرى قوسه.

وقال: يا معشر قريش! تعلمون أني من أرمى الناس، والله! لا تصلون إليَّ حتى أقتل بكل سهم منكم رجلاً، ثم أضربكم بسيفي ما بقي منه بيدي شيء، فقال قائلهم: والله! لا ندعك تفوز بنفسك ومالك؛ لقد أتيتنا صعلوكاً فقيراً، فاغتنيت وبلغت ما بلغت، ثم تذهب به كلا واللات، قال: أرأيتم إن تركت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم.

فدلَّهم على موضع ماله، وأطلقوا سراحه، فانطلق فاراً بدينه غير آسف على مالٍ أنفق زهرة العمر في تحصيله، يستفزُّه ويحدوه الشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلما بلغ قباء رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهشَّ له وبشَّ وقال: {ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى}.

والله! لا الدنيا وشهواتها وزخارفها ولذائذها ومتعها لا تساوي: {ربح البيع أبا يحيى}.

علت الفرحة وجه صهيب، وحقاً -والله- ربح البيع: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:٢٠٧].