للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نهاية الإنسان في هذه الدنيا]

هل شاهدت محتضراً في شدة سكراته ونزعاته؟ هل تأملت صورته بعد مماته؟ هل تذكرت أنك صائر إلى ما صار إليه، وذائق ما ذاقه من آلام الموت وكرباته، فاستعددت لتلك اللحظات العصيبة؛ فزدت في عملك، وزدت في إجهاد نفسك واجتهادك؟

هاهو الحسن عليه رحمة الله يدخل على مريض يعوده، فيجده في سكرات الموت، فينظر إلى كربه وإلى شدة ما نزل به، فيرجع إلى أهله حزيناً كئيباً بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: يا إمام! الطعام يرحمك الله! فقال: يا أهلاه! عليكم بطعامكم وشرابكم؛ فوالذي نفسي بيده! لقد لقيت مصرعاً ما أزال أعمل له حتى ألقاه.

فمثِّلْ لنفسك -يا عبد الله- وقد حلَّت بك السكرات، ونزلت بك الغمرات، وابنتك تبكي كالأسيرة، وتتضرع وتقول: من لِيُتْمِي بعدك؟ وابنك ينظر إليك وينظر ما يتعجل من اليتم بعدك، ويقول: من لحاجتي أبتاه؟ وأنت تسمع فلا ترد الجواب.

هل رأيت جنازة محمولة على الأكتاف لتُوارى في التراب؟ ثم تساءلت عن حالها؛ ما حالها؟

في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد قال: قال صلى الله عليه وسلم: {إذا وضعت الجنازة، واحتملها الرجال على أعناقهم؛ إن كانت صالحة قالت: قدِّموني قدِّموني، وإن كانت غير ذلك قالت: يا ويلها! أين تذهبون بها؟ يا ويلها! أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه لصعق} تصرخ صرخات تقض المضاجع.

هل مثلت لنفسك أنك المحمول، ما حالنا لو احتملنا جنازة ثم صرخت تلك الصرخات: يا ويلها! أين تذهبون بها؟ والله لصُعقنا ولما حملنا جنازة أبداً، وهذا ما خشيه علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قال -كما في صحيح مسلم -: {لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يُسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع} فخيِّل لنفسك يا بن آدم إذا أُخذت من فراشك إلى لوح مغتسلك، فغسلك الغاسل وأُلبست الأكفان، وأوحش منك الأهل والجيران، وبكى عليك الأصحاب والإخوان، فما ينفع البكاء، وما ينفع العويل، وما ينفع إلا ما قدمته من صالح الأعمال.

هاهو يزيد الرقاشي عليه رحمة الله يحضر عابداً قد حضرته الوفاة، وحوله أهله يبكون، فقال لوالده: أيها الشيخ ما الذي يبكيك؟ قال: أبكي فقدك، وما أرى من جهدك.

فبكت أمه، قال: أيتها الوالدة الشفيقة الرفيقة ما الذي يبكيكِ؟ قالت: أبكي فراقك، وما أتعجل من الوحشة بعدك.

فبكى صبيانه وأهله وزوجه، قال: يا معشر اليتامى! ما الذي يبكيكم؟ قالوا: نبكي ما نتعجله من اليتم بعدك.

فما كان منه إلا أن صرخ، وقال: كلكم يبكي لدنياي، أما فيكم من يبكي لآخرتي؟ أما فيكم من يبكي لملاقاة التراب وجهى؟ أما فيكم من يبكي لسؤال منكر ونكير إياي؟ أما فيكم من يبكي لوقوفي بين يديْ الله ربي؟ ثم صرخ صرخة عظيمة، شهد بعدها أن لا إله إلا الله ليلحق بالله عز وجل.

يا أيها المسلم: هل نظرت إلى القبور؟ ما نظر عبد لها إلا انكسر قلبه، وكان أبرأ ما يكون من القسوة والغرور، ما حافظ عبد على زيارة المقابر مع التفكر والتدبر إلا رقَّ قلبه، وذرفت عينه؛ إذ يرى فيها الآباء والأمهات والأصحاب والأحباب والإخوان والأخوات، يرى منازلهم، ويتذكر أنه -قريباً- سيكون بينهم، وأنهم جيران لبعضهم، قد انقطع التزاور بينهم مع الجيرة: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) [سبأ:٥٤].

قد يتدانى القبران، وبينهما ما بين السماء والأرض؛ نعيماً وجحيماً.

ما تذكر عبد هذه المنازل إلا رقَّ قلبه من خشية الله، ولا وقف على شفير قبر فرآه محفوراً، فهيَّأ نفسه أن لو كان صاحبه إلا رق قلبه، ولا وقف على شفير قبر، فرأى صاحبه يُدلى فيه، فسأل نفسه: على ماذا أُغلق؛ على نعيم أم على جحيم؛ على مطيع أم على عاصٍ إلا رقَّ قلبه.

فلا إله إلا الله! هو العالم بأحوالهم، هو الحكم العدل الذي يفصل بينهم.

ألا فتذكر هاذم اللذات، وتذكر القبر والعظام النخرات، ليهتز قلبك خشية من الله؛ فتنيب إليه إنابة الصادق الخاشع الذليل.

هاهو ابن عوف رضي الله عنه يقول: خرجت مع عمر رضي الله عنه فلما وقفنا على مقبرة البقيع اختلس يده من يدي، وكنت قابضاً على يده، ثم وضع نفسه على قبر، فبكى بكاءً طويلاً، فقلت: ما بك يا أمير المؤمنين؟! قال: يا ليت أم عمر لم تلِد عمر، يا ليتني كنت شجرة، أنسيت يا بن عوف هذه الحفرة؟ قال: فأبكاني والله!

فالله المستعان على تلك اللحود الضيقات، والله المستعان على تلك اللحظات الحرجات.

هاهو صلى الله عليه وسلم، كما في المسند من حديث البراء: أنه رأى أُناساً مجتمعين، فسأل عن سبب اجتماعهم؟ فقيل: على قبر يحفرونه، ففزع -صلى الله عليه وسلم- وذهب مسرعاً، حتى انتهى إلى القبر، ثم جثا على ركبتيْه، وبكى طويلا، ثم أقبل على الناس، وهو يقول: {يا إخواني! لمثل هذا فأعدوا.

يا إخواني! لمثل هذا فأعدوا}.

فهلا أعددنا أنفسنا لتلك اللحود الضيقات، إنه القائل صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر: {إني أرى ما لا ترون، وأسمع مالا تسمعون؛ أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تَئِطَّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملَكٌ واضع جبهته ساجد أو راكع، والله! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفُرش، ولخرجتم إلى الصعُدات، تجأرون إلى الله} وفي رواية المنذري: {ولحثَوْتم على رءوسكم التراب} والله! لو علمنا حق العلم لقام أحدنا حتى ينكسر صُلبه، ولصاح حتى ينقطع صوته.

الأمر خطير جد خطير:

يا نفسُ قد أزفَ الرَّحيل وأظَّلك الخَطْبُ الجليلُ

فتأهبي يا نفسُ لا يلعبْ بك الأملُ الطويلُ

لتنزلنَّ بموضعٍ ينسى الخليلُ به الخليل

وليركبنَّ عليك من الثرى حملٌ ثقيل

قُرن الفناءُ بنا فما يبقى العزيزُ ولا الذليل

خالف هواكَ إذا دعاكَ لريبةٍ فلربَّ خيرٍ في مخالفةِ الهَوى

حتى متى لا تَرْعَوِي يا صاحبي حتى متى لا تَرْعَوِي حتى متى؟