هل يكون مهتدياً حقاً من ظاهره الاستقامة، ثم في انهزامية مقيتة وبحجة ضغط الواقع يتراجع عن ثوابت ومسلمات؟ أما إن الحق لا ينقلب باطلاً، ولا الباطل يصير حقاً مهما كانت التبعات.
هل يكون مهتدياً على الحقيقة من يهمل حقوق الخلق ويسيء في المعاملات، لا يتقبل النصح ويرى ذلك اتهامات، يعيش الفوضى وعدم الانضباط، مضيعاً وقته، غير منتظمٍ في درسٍ، أو محاضرةٍ، أو عملٍ نافعٍ، أو حلقات، ومع ذا منشغلٌ بالملهيات، مغرقٌ في سماع الأناشيد والتمثيليات، سيارته ومكتبه مستودعٌ للأناشيد والطرائف الاحتفالات؛ يحفظها حفظاً يفوق حفظ الأحاديث والآيات، حتى إن بعضهم ليذهب مع اللحن يترنم ويطرب، ثم يبكي ما لا يبكيه عند سماع قوارع الآيات، ولربما صاحبها الدف، وترخص في ذلك، فلم يشعر إلا وهو من أهل الأغنيات؟ فالهبوط سهلٌ والارتقاء صعب التبعات.
عفواً إخوتي: من كتم داءه، قتله، آن لنا أن نعلنه لعلنا نتعاون فنصلحه، عظم الاهتمام بالتحسيني والكمالي، وترك الحاجي والضروري، صارت الكماليات عندنا ضروريات، فنأكل الحلوى ونحن في بلوى كما قيل، وبعضنا من هو مهتمٌ بمظهره اهتماماً يفوق اهتمام البنيات، ألف السطحية والمظهرية، فهو تمثال خشبٍ لا يخيف ولا يرهب، يمني نفسه ويسوف، وقد أمن الهرم كما أمن الصيد حمام الحرم.
يدٌ فارغة، ويدٌ لا شيء فيها، فضولٌ بلا فضل، وسنٍ بلا سنة، وطولٌ بلا طَول، وعرضٍ بلا عِرض، متساهلٌ في الأمر الخطير، متشددٌ في الأمر السهل اليسير، لم يتخلص من رواسب الجاهلية من صورٍ وقنوات ومجلات، لا يتورع عن المشتبهات، يتهاون بالسنن والمندوبات، ويفرط في الواجبات، جلساؤه قبل أن يهتدي هداية الخيال هم جلساؤه، مع أنهم أخطر شيءٍ عليه إذ هم أعرف الناس بنقاط ضعفه، فهم له كالمجذوم؛ تصافحه تحيةً وسلاما، فلا يبلغه منه إلا الجذام والمرض.
ونور الشمس يحجبه الغبارُ
فما معنى الخضاب وأنت تدري بأن العيب من تحت الخضاب
عاداته، أفكاره، اهتماماته هي هي لم تتبدل، لم يزل مصراً على بعض المال المشتبه، حتى إذا ما تورع عن حرام، لم يزل لسانه يسري في أعراض الأحياء والأموات؛ يشتم ذا ويجرح ذاك ويعدل ذلك.
أمانيه، حبه، بغضه، عطاؤه، منعه هي هي، ولاؤه لمصلحته، عداؤه لكل ما يقف في طريقها، نفعيٌّ ذاتي، مستصعب مخالفة الناس والتحيز إلى الله ورسوله:
حياته عارضةٌ وصفية فألغين عارض الوصفية
أيكون من هذا حاله مهتدياً على الحقيقة؟ كلا إنما هو عش حمامة؛ عودٌ من غرب وعود من ثمامة، بل غيمٌ حمى الشمس ولم يمطر ولم يكف.