[عدم اليأس]
علمتني الحياة في ظل العقيدة: ألا أيئس وألا أقنط وأن أعمل وأدعو إلى الله ولا أستعجل النتائج، وأن أبذر الحب قطفت جنيه أم لم أقطف جنيه: فلا ييئس {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:٨٧] {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:٥٦].
لو تأملت -أخي الحبيب- قصة نوح عليه السلام، الذي طالما دعا بالليل والنهار، بالسر والإعلان، لم يزدهم دعاؤه إلا فراراً: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} [نوح:٧] والدعوة لمدة تسعمائة وخمسين عاماً، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل، قيل: اثني عشر، وغاية ما قيل أنهم ثمانون، بمعنى أنه في كل خمس وثمانين سنة يؤمن واحداً أو في كل اثنتي عشرة سنة يؤمن واحداً، ولم ييئس صلوات الله وسلامه عليه وما كان له أن ييئس.
ها هو صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يقول: {يأتي النبي ومعه الرجل، ويأتي النبي ومعه الرجلان، ويأتي النبي ومعه الرهط، ويأتي النبي وليس معه شيء} ولم ييئسوا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وها هم أصحاب القرية -قرية أنطاكية - يرسل الله إليهم رسولين فكذبوهما فعزز بثالث فكذبوه، ثلاثة رسل إلى قرية واحدة، ثم يقوم داعية من بينهم قد آمن بالله الذي لا إله إلا هو، فما كان منهم إلا أن قتلوه، فما النتيجة؟ {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:٢٦ - ٢٧].
يا أيها الأحبة: النملة تلكم الحشرة الصغيرة تعمل وتجمع الحب في الصيف لتأكله في الشتاء، ينزل المطر فتخرجه من جحورها ومن مخازنها لتعرضه للشمس، ثم تعيده مرة أخرى، تحاول صعود الجدار فتسقط، ثم تحاول أخرى وتسقط، ثم تحاول مرتين وثلاثاً وأربعاً حتى تصعد الجدار، أفيعجز أحدنا أن يكون ولو كهذه الحشرة يا أيها الأحبة؟
بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
إن الله جل وعلا يقول: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:١٨ - ٢٠] ثم ماذا قال بعدها: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:٢١] كأن الله عز وجل يريد من الذين يدعون إلى الله أن يأخذوا: صبر الإبل، وسمو السماء، وثبات الجبال، وذلة الأرض للمؤمنين، ثم بعد ذلك: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:٢١] ليس لليأس مكان عند المؤمن، وليس للقنوط مكان عند المؤمن.
ها هو رجل يركب البحر وتنكسر به سفينته فيسبح إلى جزيرة في وسط البحر ويمكث ثلاثة أيام لم يذق طعاماً ولا شراباً، ويئس من الحياة فقام ينشد ويقول:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القار كاللبن الحليب
لا يمكن أن يكون القار كاللبن ولا يمكن أن يشيب الغراب، معنى ذلك أنه يئس وأيقن بالموت، وإذا بهاتف يهتف ويقول:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب
وبينما هو يسمع هذا النداء وإذا بسفينة تمر فَيُلوح لها، فتأتي فتحمله وإذ على ظهر السفينة أحدهم يردد منشدا.
عسى فرج يأتي به الله إنه له كل يوم في خليقته أمر
إذا لاح عسر فارج يسرا فإنه قضى الله أن العسر يتبعه اليسر
ولن يغلب عسر يسرين، فاعمل أخي! لا تيئس وابذر الحب.
فعليك بذر الحب لا قطف الجنى والله للساعين خير معين
ستسير فلك الحق تحمل جنده وستنتهي للشاطئ المأمون
بالله مجراها ومرساها فهل تخشى الردى والله خير ضمين
ولنا بيوسف أسوة في صبره وقد ارتمى في السجن بضع سنين
لا يأس يسكننا فإن كبر الأسى وطغى فإن يقين قلبي أكبر
في منهج الرحمن أمن مخاوفي وإليه في ليل الشدائد نجأر