[من آثار الإيمان: تنقية القلوب من الأدران]
من آثار الإيمان على حياة الناس: تنقية قلوبهم من الحسد، وتصفيتها من الحقد والغل، واستلال الضغائن والسخائم منها؛ لتصبح الأمة كما قال رب العالمين: {أَشدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:٢٩].
هاهو صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من رواية أنس، وكما في رواية ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لما قسم غنائم حنين أعطى المهاجرين، وتألف قلوب بعض المشركين، ولم يعطِ الأنصار شيئاً، فوجدوا في أنفسهم، فقال قائلهم: وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه فنسينا، وقال الآخر: غفر الله لرسول الله، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم.
فيذهب أحدهم، بل سيد من ساداتهم؛ سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقل المقالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما أنت؟} يعني: أين موقفك أنت؟ حدِّد موقفك؟ هل أنت منهم؟
فيقول: {يا رسول الله! ما أنا إلاّ رجل من قومي، قد أقول ما يقولون} لا يعرفون الخداع، ولا يعرفون الالتواء، إنما هم صرحاء أتقياء أنقياء.
فقال صلى الله عليه وسلم: {اجمعهم لي} فجمعهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: {يا معشر الأنصار! ما حديث بلغني عنكم، ألم آتكم ضُلالاً فهداكم الله بي؟ وفقراء فأغناكم الله بي؟ وأعداءً فألف الله بين قلوبكم بي؟ فيقولون: الله ورسوله أمنّ، الله ورسوله أمنّ.
قال: ألا تجيبوني -يا معشر الأنصار! - والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصُدِّقتم: أتيتنا مُكذَّباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فواسيناك.
أوجدتم يا معشر الأنصار! في أنفسكم على لعاعة من الدنيا تألفت بها قلوب أقوام ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ والذي نفسي بيده! لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار.
أما ترضون أن يعود الناس بالشاء والبعير، وتعودون أنتم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فو الله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به.
ألا إنكم ستلقون بعدي أَثَرَة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض} فبكى القوم حتى اخضلَّت لِحَاهُم بالدموع وهم يقولون: رضينا برسول الله قسماً وحظّاً، رضينا برسول الله قسماً وحظّاً، لسان حالهم
خذوا الشياة والجمال والبقر فقد أخذنا عنكم خير البشر
أرأيت كيف استلَّ صلى الله عليه وسلم ما في قلوبهم، إنه لو لم يكن فيها إيمان لما استلَّ ما في قلوبهم رضوان الله عليهم جميعاً.
وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- بين أصحابه، فيقول: {يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة}، فطلع رجل تقطر لحيته من آثار الوضوء، ثم قالها في اليوم الثاني، فطلع نفس الرجل، ثم قالها في اليوم الثالث فكان هو الرجل، فلحق به أحد صحابة رسول الله، وجلس معه أياماً فلم يرَ في هذا الرجل كثير صلاة ولا صيام.
فقال له بعد ثلاث ليال: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، ولم أرَك تعمل كثير عمل، قال: والله هو إلا ما رأيت، غير أني لا أنام ليلة من الليالي وأنا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، فقال: بذلك بلغت ما بلغت، وتلك التي لا تُطاق -أو كما قال-
إنه الإيمان.
الإمام الشافعي عليه رحمة الله عوتب من قِبَل بعض المغرضين على زيارة الإمام أحمد، وهو أكبر منه سناً، فقال رداً على هؤلاء:
قالوا يزورك أحمد وتزوره قلت الفضائل لا تغادر منزله
إن زارني فلفضله أو زرته فلفضله فالفضل في الحالين له
رد على المعرضين، وكأنه يقول:
دعهم يعضوا على صمِّ الحصا كمداً من مات من غيضه منهم له كفن
إنه الإيمان وكفى!