للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صور من تضحيات أبناء أبي بكر]

يأتي أبو جهل إلى أسماء فيقول: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ فتقول: لا أدري بعزة المؤمنة، فيرفع يده فيلطم خدها لطمة طرح منها قرطها من أذنها -لطمه الله بنار تلظى- ولم تخبره رغم ذلك، وتثبت ثبات الرجال الأقوياء، ولم يغنها ذلك عن القيام بدورها مع أختها عائشة تلكم الطفلة التي لم تبلغ الثمان سنوات في تلك اللحظة، قامت أسماء تجهز الطعام وتشق نطاقها لتربط الطعام فتلقب بذات النطاقين، وتربط الطعام وتذهب به إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم لتوصله إليه وإلى أبيها هناك.

فلو كان النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال

وما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخر للهلال

أما عبد الله بن أبي بكر أخو أسماء ذلكم الشاب، فكان يأخذ أخبار قريش في النهار، وكان فطناً ذكياً لبقاً، وفي الليل يوصلها إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وإلى أبيه، فهو الإعلامي الصادق الأمين الذي تفتقر إليه الأمة في عصرها الحاضر.

أما راعي أبو بكر -حتى راعي أبي بكر كان له دور، وهو عامر رضي الله عنه وأرضاه- فلقد كان يمر بغنمه على المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ليخفي آثار أسماء وعبد الله، ويسقي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر من لبن الغنم كل ليلة يفعل ذلك.

تضحيات ومفاخر خالدات لم تجتمع إلا لآل أبي بكر رضي الله عنهم.

ولذا كان لـ أبي بكر ولآل أبي بكر منزلة أنزلهم إياها صدقهم وتقواهم، روى عن أبي الدرداء بإسناد حسن: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه يمشي أمام أبي بكر، فقال: يا أبا الدرداء أتمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة، ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين خير من أبي بكر}.

تلك المكارم لا صعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

النبي صلى الله عليه وسلم لا زال في الغار، ووصل المشركون إلى الغار، وأبو بكر يقول: {لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لرآنا، فيقول صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا} لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة من الأمن والطمأنينة لم يصل إليها بشر في الأرض، وهو يرى نفسه بين عدوه لا يحول بينهما إلا التفاتة واحدة، لماذا؟ لأنه واثق بنصر الله، ومن كان الله معه فمن يخاف؟! {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:٣٠].

يا أيها الأحبة! إن الذي يتملى حديث الهجرة ويتأمله، يعلم أنها لم تكن مجرد نجاة من عدو أو هروب من محنة لا، بل كانت فاتحة تاريخ جديد، وابتداء وجود للمسلمين، وقاعدة عظيمة آمنة للدعوة، وهي المدينة النبوية.

وحين يراجع المرء حدث الهجرة يلاحظ أن الذي اختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنفيذ هذا المخطط من الشباب، وليس فيهم إلا كهل واحد هو أبو بكر، لقد كان صلى الله عليه وسلم بهذا يمثل القائد الفذ، الذي يختار أقدر العناصر على تأدية الدور المطلوب، فيفجر طاقتها، ويعطيها ما يتناسب مع إمكاناتها، سواء أكانت الطاقات أطفالاً كـ جابر وعائشة، أو رجالاً وفتيات كـ أسماء وعبد الله، ليؤدي كل واحد دوره.

ولا يرضى صلى الله عليه وسلم لعملية الصحبة بالهجرة، إلا أصحاب السوابق، بل إلا واحد منهم وهو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ذلكم الكهل الذي يتصاغر الشباب والرجال أمام همته العظيمة، فهو حارس الطريق، ومهيأ المقيل، ومعد الزاد، ومظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تلفحه الشمس، يقول عمر: [[والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر]] يقصد ليلة الغار، إذ هو: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:٤٠] والذي يبكي وقد رأى الطلب وراء النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: [[أما والله ما على نفسي أبكي ولكن أبكي عليك يا رسول الله]].

إن أية دعوة إلى الله عز وجل لا بد أن يكون عمادها عنصر الشباب الحي المضحي الذي لا يعرف الخوف والخور والوهن سبيلاً إليه رجالاً كانوا أو نساء، ولقد رأينا الفتاة المسلمة شريكة في البيعة والهجرة والإعداد والائتمان على السر، إن مسئولية إقامة دين الله في الأرض تحتاج إلى تضافر جهود الشباب مع الكهول مع الرجال والنساء والأطفال، من جابر الذي لا يستطيع أن يرمي بحجر لصغره إلى أبي بكر شاب كهول، من عائشة ذات الثمان سنوات إلى أم عمارة تلكم العجوز الفدائية التي لطالما شاركت وذبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأن باكورة تاريخنا تقول: إن الأمة في مجملها بشيبها وشبابها ورجالها ونسائها وأطفالها كلهم أصحاب رسالة، يساهمون في حملها ونشرها والصبر على الأذى في تبليغها.