للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أحوال الناس مع الرضا بقدر الله]

وذاك غاد آخر في دنياه، ويصاب بمصيبة فيوبق نفسه، ويهلكها، يتسخط من قضاء الله، ويعترض على قدر الله، ما علم أن المصائب متى ما احتسبت رفعت الدرجات، ليلقى المؤمن ربه وما عليه خطيئة من الخطايا، وما علم أن الله مع الصابرين، يصاب ذلك في دنياه، فيجعل الإصابة في دينه.

وكلُّ كسرٍ لعل اللهَ جابِره وما لكسر قناة الدين جُبْران

يقول عندما يصدم الصدمة الأولى، يوم يفقد حبيباً، يوم يصاب بمصيبة يقول: لم يا رب؟ يعترض على الله جل وعلا، ويتسخط من قضاء الله، يشق الجيب، ويلطم الخد، ويدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور، والملائكة تؤمن على ما يقول، فإذا به قد خسر حبيبه، وإذا به قد خسر دينه مع حبيبه -نسأل الله العافية والسلامة- فإذا المصيبة مصيبتان.

يا أيها الإخوة: هل سيعود ميت إن ذهب؟ هل سمعتم بميت دُفن ثم عاد إليكم؟ ما سمعنا بذلك، الذي ذهب لا يعود، مرتهنون في القبور، قد حيل بينهم وبين ما يشتهون.

هاهو شاب من شباب السلف، كانت له زوجة تحبه حباً جماً، ويقضي الله عليه بالموت الذي لابد أن يقضى على كل نفس في هذه الحياة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فجزعت عليه، ولم تصبر، وإنما بكت، وتأثرت، وأقسمت لتبكين عليه عاماً كاملاً، وهذا ليس من الإسلام في شيء، فالإسلام يأمر بالصبر، ويأمر بأن يثبت الإنسان عند المصيبة، ويُرْجع الأمور إلى الله جل وعلا.

ما كان منها؟ أقسمت لتضعن خيمة عند قبره، وتجلس عنده عاماً كاملاً، تبكيه هذا العام الكامل كله، وذهبت بأولاده وجلست عاماً كاملاً تبكي، فما خرج إليها في يوم من الأيام يقول لها: أحسنت، أو ما قصرت، لم يخرج إلى أولاده يوماً من الأيام، ليمسح دمعة أحدهم عن خده، لم يخرج إليهم، ووالله لو خرج إليهم ما قبلهم، ولا نظر إليهم، وإنما اغتنم الفرصة في ركعة، أو سجدة، أو تسبيحة، أو قول لا إله إلا الله التي هم بحاجة إليها وحيل بينهم وبينها.

وبعد العام الكامل، بعد ما انتهى هذا العام أخذت أطناب خيمتها، وعادت إلى بيتها، لم تستفد إلا أنها جزعت، ولها جزاء الجازعين، وحينما جمعت أطناب الخيمة، إذ بهاتف يهتف ويقول: هل وجدوا ما فقدوا؟ وإذا بهاتف آخر يرد: ما وجدوا ما فقدوا، بل يئسوا فانقلبوا.

يئسوا فرجعوا إلى بيوتهم، الذي يذهب -يا أيها الإخوة- لا يعود، فما عليك يا أيها المؤمن المصاب إلا الصبر.

رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوتنا وقدوتنا وحبيبنا وإمامنا، ماذا كان منه صلى الله عليه وسلم؟ ابنه إبراهيم يوم يبلغ السنتين يموت بين يديه، فتدمع عيناه صلى الله عليه وسلم رحمة بهذا الطفل، فماذا يقول؟ يقول: {القلب يحزن، والعين تبكي، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون}، لا نقول إلا ما يرضي الرب وهو قدوتنا.

ترسل إليه إحدى بناته بأن ابنها في النزع الأخير، في حالة الاحتضار، ترسل إليه ليحضر، فيقول لرسولها الذي أرسلته: {مرها فلتصبر ولتحتسب، لله ما أخذ، وله ما أبقى، وكل شئ عنده بأجل مسمى} تسليم لله، له ما أخذ وله ما أبقى تبارك وتعالى.

ويعقوب عليه السلام يفقد ابنه وفلذة كبده؛ يوسف حبيبه يفقده أربعين عاماً حتى إن الملائكة جاءت إليه تعرض الخدمات عليه، وتقول: ألا تشكو؟ {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:٨٦] مرد الأمور إلى الله.

وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

أما الآخر فيغدو ليعتق نفسه، يصاب بالمصيبة فيحتسبها عند الله، فيعوضه الله ويبشره الله عز وجل {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:١٥٥ - ١٥٧] وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن من جزاء عندي إذا قبضت صفيه -أو خليله- من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة} ما له من جزاء إلا الجنة، ونعم الجزاء الجنة يا أيها الإخوة.

وعند الترمذي: {أن الله يقول للملائكة: قبضتم ابن عبدي؟ -والله أعلم بذلك- قالوا: نعم.

قال: أقبضتم فلذة كبده؟ قالوا: نعم.

قال: فماذا قال؟ -وهو أعلم تبارك وتعالى- قالوا: حمدك واسترجع -قال: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون- قال: ابنوا له بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد؛ فهو كالكوكب الدري الغابر في الأفق في سماء الجنة} هذا هو جزاء الصابرين.

ولقد ذكر لنا التاريخ: أناساً كان منهم أن أصيبوا بمصائب فتحملوا، واحتسبوا، فمنهم:

عروة بن الزبير، ذلك المثل الحي للصبر، عروة يوم تأتي الآكلة فتصيبه في قدمه، فيقول الأطباء: نقطع القدم، قال: أصبر وأحتسب.

قالوا: نقطعها من الركبة.

قال: أصبر وأحتسب، وعندما زادت ورأى أنها ستسري إلى جسده كله، قال: الله المستعان، جاء الأطباء وتجمعوا يريدون قطع رجله، جاءوا بمناشيرهم -ما كان هناك مخدر- وقالوا له: تناول كأساً من خمر عله أن يذهب عقلك، فلا تجد ألم القطع، قال: كأس من خمر أشربه! عقل منحنيه ربي أذهبه بكأس من خمر؟ لا والله! ولكن إذا توضأت، ودخلت في صلاتي، وسبحت مع آيات الله البينات، فافعلوا برجلي ما تشاءون.

تركوه حتى وقف بين يدي الله، وتعلق قلبه بالله - يوم كانوا يصلون فيخشعون لله، ويعلمون أن الله قِبَل وجوههم- فيأتون عليه بالمناشير، فيقطعوا رجله، وتنزف الدماء، ويسقط مغشياً عليه، وفي هذه اللحظة ترفس دابة ابنه محمد فيموت، مصيبتان في آن واحد، رجله تذهب، وابنه يذهب، ويفيق من غشيته، فيقول له أصحابه: أحسن الله عزاءك في رجلك، وأحسن الله عزاءك في ابنك محمد، قال: الحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، رب إن كنت أخذت فقد أعطيت، وإن كنت ابتليت فقد عافيت، أعطيتني أربعة من الأطراف وأخذت واحداً، فلك الحمد أولاً وآخراً، وأعطيتني أربعة من الأولاد وأخذت واحداً، فلك الحمد أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:١٥٥ - ١٥٧].

ويذهب ليدخل مجلس الوليد بن عبد الملك، ويوم دخل المجلس كان هناك طفل، فقال طفل الوليد للوليد: ما أظن أصاب عروة ما أصابه إلا بذنب قد ارتكبه، فسمع ذلك، فقال:

وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الله إلا قد أصابت فتى قبلي

فقال الوليد: ابحثوا لنا عن أهل مصائب في هذا العام، عله يتسلى بهم، فإن مصيبته عظيمة.

وما علموا أنه فوض أمره إلى الله جل وعلا.

فخرجوا فوجدوا رجلاً عبدياً أعمى وراء قصر الوليد، فأخذوه وأدخلوه على الخليفة، قال: ما مصيبتك وما خبرك؟

قال: والله! ما كان في بني عبد رجل أغنى وأكثر مالاً وولداً مني، وجئت يومًا من الأيام فعزب لي قطيع من الإبل، فذهبت وراءه أتلمسه، وتركت أهلي، ومالي، وولدي في هذا الوادي، وبقيت ليلتين، وعدت بالقطيع، فإذا الديار خراب بلقع ليس بها داع ولا مجيب، جاء سيل فاقتشعهم كلهم؛ بقره، وغنمه، وكل ما يملك، ولم يبق إلا طفل صغير معلق في شجرة، لا زال في مهده، قال: فذهبت إليه وضممته إلى صدري، وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال: ثم ندَّ بعير من الأبعرة، فلحقت به -لم يبق له إلا هذا القطيع الذي عزب- وإذ بصوت الطفل يصيح، فنظرت فإذا الذئب قد أخذه، وإذا به في فمه، فلم يبق له لا مال ولا أهل ولا ولد ولا أنيس، ما بقي إلا هذه المجموعة من الإبل، لكن من كان الله معه فلا يخاف، قال: فبقيت وراء هذا البعير أطرده لأرده، فرفسني برجله فأعمى بصري فبقيت في الصحراء أتلمس، لا مال، ولا أهل، ولا ولد، ولا بصر، ولا أنيس، ولا حبيب، وجئت إليك هنا، ووالله! ما جئت شاكياً، لكن جئت إليك لأخبرك أن من عباد الله أناساً يرضون بقضاء الله، ويسلمون إذا قضى الله أمراً: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:١٥٥ - ١٥٦].

وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

ولا بأس بأن نذكر -أيضًا- حادثة أخرى، أبو ذؤيب الهذلي: ثمانية من أبنائه يصابون بالطاعون في يوم واحد، ويموتون كلهم في يوم واحد، فيسترجع ويحمد الله -عز وجل- ثم يتنفس بأبيات بعد ذلك، كانت من أم المراثي في الأدب العربي، يقول:

ولقد حرصتُ بأن أدافعَ عنهم وإذا المنيةُ أقبلت لا تُدْفعُ

وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمةٍ لا تنفعُ

وتجلدي للشامتين أُرِيهمُ أني لِرِيَبِ الدهر لا أَتَضَعْضَعُ

وكل يغدو!