[حقيقة الإيمان]
يا أهل الإيمان: ما الإيمان؟
الإيمان تلكم الكلمة المدوية المجلجلة التي تهزُّ كيان المسلم، فيرنو إليها ببصيرته، ويتحرك نحوها فؤاده، ويشد إليها رحاله، وتسمو إليها تطلعاته: إنه الميدان الذي يتسابق فيه المتسابقون، ويتنافس فيه المتنافسون.
إنه ما يتحسس كل مسلم قبسه في قلبه، ويتلمس وهجه في نفسه، ويسعى ويعمل لسلوك السبيل المحبب له، لينير به جوانب روحه.
الإيمان؛ ما الإيمان؟
قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان.
الإيمان؛ ما الإيمان؟
نفحة ربانية يقذفها الله في قلوب من يختارهم من أهل هدايته، ويهيء لهم سبل العمل لمرضاته، ويجعل قلوبهم تتعلق بمحبته، وتأْنَس بقربه، فالمؤمنون في رياض المحبة، وفي جنان الوصل يرتعون ويمرحون، أحبهم الله فأحبوه، فاتبعوا نبيه ورضي عنهم فرضوا عنه، تقربوا منه بالصالحات والطاعات، فدنا منهم بالمغفرة والرحمات؛ كما في الحديث القدسي: {ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه} متي نكون أهلاً لأن نسأل الله فنعطى، ونستعيد بالله فنعاذ؟
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره
الإيمان، ما الإيمان؟
شعور يختلج في الصدر، ويلمع في القلب؛ فتضيء جوانب النفس، ويبعث في القلب الثقة بالله، والأُنس بالله، والطمأنينة بذكر الله: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨].
الإيمان؛ ما الإيمان؟
إنه الشعور بأنك ذرة في كون عظيم هائل متجه إلى الله، يسبِّح لله، ويخضع لله، ويؤمن بالله: {وَإِن من شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه} [الإسراء:٤٤] تبارك عز وجل؛ فسبحان من آمن له الكون أجمعه! وسبحان من سبَّح له الكون أجمعه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن من شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه} [الإسراء:٤٤].
موكب عظيم يسبح الله، ويؤمن به، يجعلك -أيها العبد- تُسأل: أين أنت من هذا الموكب؟ حدِّد موقعك في هذا الموكب؟ وهدفك على هذا الموكب وغايتك؛ فإن الشاذ عن هذا الموكب لهو الشقي الخاسر لنفسه؟ وماذا بعد خسارة النفس من خسران؟!
الله هو الغني ونحن الفقراء، لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، بل مخلوقاته غيرنا كثير وكثير؛ صنف منهم وهم الملائكة لا يحصيهم ولا يعلم عددهم إلا الله الذي لا إله إلا هو: {لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦]، {يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:٢٠] وفي صحيح مسلم {إنه ليدخل البيت المعمور في السماء السابعة كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى قيام الساعة}.
كم من الملائكة يدخل البيت المعمور منذ أن خلق الله السماوات والأرض وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، ما بالك بعدد الملائكة عموماً؟! ما بالك بغيرهم من سائر المخلوقات؟!
ألم تسمع في الصحيح إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر {إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو راكع، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفُرِش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله -وفي رواية- ولحثوتم على رءوسكم التَّراب}.
{أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو راكع، أهل سماءٍ يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، وأخري يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، وأخرى يقولون: سبحان الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون}.
خَلْق عظيم هائل لا يحصيهم إلا خالقهم سبحانه وبحمده، وظيفتهم التسبيح والتعظيم، فماذا يضر أن ينقلب إنسان من هذا الموكب العظيم فيكفر بالله، ومن كفر فعليه كفره: {أَلَمْ تَرَ أَنِّ اللهَ يسبح لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} [الحج:١٨] هل جندت نفسك -أخي في الله- لتكون من أهل هذا الموكب المسبح السائر إلى الله -أعني: موكب المؤمنين-؟
إن كنت كذلك فأبشرْ بالجزاء من أكرم الأكرمين، يوم الوقوف بين يديْ رب العالمين: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٧].