للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سماوة الجيل الحاضر ومصدر التلقي]

معشر الإخوة والبنين: ولما التفتت وسائل التوجيه والتربية في الأمة إلى غير ذلك النبع الصافي ضاعت هويتها، فصارت كمن ينقش شوكة بشوكة، فتنكسر الشوكة التي استخدمت لإزالة تلك الشوكة، فتجتمع شوكة بشوكة -كما قيل-

إنك لتسمع من يقول ببلاهة وغباء وبلادة لمن يدعو إلى العودة إلى ذلك النبع الصافي إلى الوحي: أنتم خياليون، تعتمدون على الماضي، وتتكلون على الموتى، يستهزئ في معرض النصح، ولا ندري متى صار إبليس مذكراً!!

ومن الرزية عاهرٌ مُتَوَهَّم في الناسكين وناسكٌ في العهر

يريد أن ننسى ماضينا، حتى إذا استيقظنا من تنويمه لم نجد ماضياً نبني عليه حاضرنا، فاندمجنا في حاضره المرير، خاب وخَسِر وعُرِّي وهُرِّي، وقُطِّع وفُرِّي، وأُحْرِقَ وذُرِّي، تطوع لهذا العمل أم كُرِّي.

يا هر لو قال ليث الغاب قولكمُ لاستنكف الفار إن قالوا له أسدُ

...

فقبح وفدهم من وفد قوم ولا لُقُوا التحية والسلاما

أفرزت هذه لنا جيلاً على درجة من الضعف الخُلُقي والعقلي، يعتقد في قرارة نفسه أنه خلق خلقة الأرنب، وخلق عدوه المفتون به خلقة الأسد، وجف القلم، ولا تبديل لخلق الله:

إذا صوَّت العصفور طار فؤادُهُ وليث حديد الناب عند السرائد

يبيع دينه بعرض من الدنيا طلوع الشمس عنده ليل يلعن الشيطان ويتبع خطواته

أقواله ألفاظ زور مالها معنى وصوت كالطبول مجوفه

ما عنده إلا البلادة والقماءة والسفاهة والخنا والعجرفه

ولا عجب! فقد جاءته وسائل التوجيه بالكفن وهو في ثياب العرس، وعرضت عليه النوائح في موكب الفرح، وأرادت علاجه من الفقر فعالجته بالفقر والجهل ومعه الذل، وحاولت علاجه من الحمى فداوته بالطاعون قيدته بحديد بعد أن قصت ريشه، ثم قالت له: انشد وغرد وأنى له؟!

ما حيلة العصفور قصُّوا ريشه ورموه في قفص وقالوا غردِ!

...

إنما تطرب أذن حرة إنما يسعد قلب مطمئنْ

معشر الإخوة: ذلك الجيل استقى من النبع الصافي وحده، فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد إنه السماء.

وهذا الجيل استقى من ينابيع مختلطة آسنة، فهلك في بيداء السماوة، وكلٌّ يجني عواقب ما زرع.

وشتان ما بين السماء والسماوة!

هذه هي الحقيقة، فلا تلبسها ثوب زور، فلا أبطل من الباطل إلا السكوت عليه.

صرح أبن فالخير في التصريحِ قد تبرأ العلة بالتشريحِ