[الأمة بين الانتصارات والهزائم]
إن هذه الأمة تَمْرض لكنها لا تموت، وتغفو لكنها لا تنام، وتخبو لكنها لا تطفأ أبداً.
حين غزا التتار ديار المسلمين ودخلوها كالريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرَّمِيم، دَمَّروا المُدن، وخَربَّوا العُمْران، وأسالوا الدِماء، وأسقطوا الخلافة، وعطَّلُوا الصلوات، وألقوا أسفار المكتبات في نهر دجلة حتى اسودَّ ماؤه من كثرة ما سال من مداد الكتب، حتى أصْبَحت حضارة الإسلام والبشرية مهددة بهذا الغزو الوحشي، الذي لا يبقي ولا يذر، والذي يُذَكِّر بما جاء في وصف يأجوج ومأجوج، حتى أحجم بعض المعاصرين للحَدَث عن الكتابة فيه، ومنهم ابن الأثير يرحمه الله الذي يقول: ليت أمي لم تلدني، ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً؛ مما رأى ومن هول الفاجعة التي حلت بالمسلمين، ظن اليائسون حينها أن راية الإسلام نُكِّسَت ولن ترتفع بعد ذلك اليوم أبداً، وأن أمة الفتح والنصر قد حقَّت عليها الهزيمة، فهيهات أن تعود إلى الميدان من جديد.
ولم يمضِ سوى سنوات حتى تحققت معجزة الإسلام، فإذا بهؤلاء الجبابرة الغازين للإسلام يغزوهم الإسلام، فتسقط سيوفهم في صف المؤمنين، تحت تأثير العقيدة الإسلامية، فإذا بهم يدخلون في دين المغلوبين، على خِلاف ما هو معروف من أن المغلوب مولع دائماً بتقليد الغالب المنصور و {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:٤] {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:١٨٧] {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [فاطر:٤٤].
لا تيئسوا أن تستردوا عزكم فلرب مغلوبٍ هوى ثم ارتقى
وتجشموا للعز كل عظيمةٍ إني رأيت العز صعبٍ المرتقى
إنَّ قراءة متأنية في تاريخ الصليبيين وبيت المقدس تعطي الأمل بأن الواقع سيتغير، فاسمع إلى ابن كثير، وغيره من أهل السير وهم يسردون لك ذلك الحدث.
في ضحى يوم الجمعة، لسبع بقين من شعبان، سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة للهجرة دخل ألف ألف مقاتل بيت المقدس، وصنعوا فيه ما لا تصنعه وحوش الغاب، وارتكبوا فيه ما لا ترتكب أكثر منه الشياطين، لبثوا فيه أسبوعاً يقتلون المسلمين، حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألفاً، منهم الأئمة والعلماء والمُتَعبدون والمُجَاورون، وكانوا يُجْبِرون المسلمين على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت؛ لأنهم يُشعلون النار عليهم وهم فيها، فلا يجدون مخرجاً إلا بإلقاء أنفسهم من على السطوح، جاسوا فيها خلال الديار، وتبَّروا ما علوا تتبيراً، وأخذوا أطنان الذهب والفضة والدراهم والدنانير، ثم وُضِعت الصُلبان على بيت المقدس، وأدخلت فيه الخنازير، ونودي من على مآذن لطالما أطلق التوحيد من عليها أن الله ثالث ثلاثة -جل الله وتبارك- فذهب الناس على وجوههم مستغيثين إلى العراق، وتباكى المسلمون في كل مكان لهذا الحدث، وظنَّ اليائسون أن لا عودة لـ بيت المقدس أبداً إلى حظيرة المسلمين.
كم طوى اليأسُ نفوساً لو رَعَت مَنْبِتاً خصباً لكانت جوهرا
ويمضي الزمن، ويُعَدُّ الرجال، وفي سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة للهجرة أعد صلاح الدين جيشاً لاسترداد بيت المقدس وتأديب الصليبيين على مبدئهم هم:
إن القوي بكل أرض يُتَّقى
وفي وقت الإعداد تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى تُعَجِّل له هذا الأمر، وهذه المَكْرُمة، فإذا بالرسالة على لسان المسجد الأقصى:
يا أيها الملك الذي لمعالم الصُلبان نَكَّس
جاءت إليك ظلامة تسعى من البيت المقدس
كل المساجد طُهِّرت وأنا على شرفي أُنَجِّس
فانتخى وصاح: وا إسلاماه، وامتنع عن الضحك، وسارع في الإعداد، ولم يُقارف بعدها ما يُوجب الغُسل.
من ذا يُغِير على الأُسود بِغَابها أو مَنْ يَعُوم بِمسْبَحِ التِّمساح
وعندها علم الصليبيون أن هذا من جنود محمد صلى الله عليه وسلم؛ فتصالح ملوك النصارى، وجاءوا بِحَدِّهم وحديدهم، وكانوا ثلاثة وستين ألفاً، فتَقَدَّم صلاح الدين إلى طبرية، ففتحها بـ لا إله إلا الله، فصارت البحيرة إلى حوزته، ثم استدرجهم إلى الموضع الذي يريده هو، ثم لم يصل إلى الكفار بعدها قطرة ماء، إذ صارت البحيرة في حوزته فصاروا في عطش عظيم.
وعندها تقابل الجيشان، وتواجه الفريقان، وأَسْفر وجه الإيمان، واغْبَرَّ وجه الظلم والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصُّلبان عشية يوم الجمعة، واستمرت إلى السبت، الذي كان عسيراً على أهل الأحد، إذ طْلعت عليهم الشمس، واشْتَدَّ الحر، وقوي العطش، وأُضْرِمت النار من قبل صلاح الدين في الحشيش التي كان تحت سنابك خيل الكفار؛ فاجتمع عليهم حر الشمس، وحر العطش، وحر النار، وحر السلاح، وحر رشق النبال، وحر مقابلة أهل الإيمان.
وقام الخطباء يستثيرون أهل الإيمان، ثم صاح المسلمون وكبروا تكبيرة اهتز لها السهل والجبل، ثم هجموا كالسيل الدَّفَّاع لِيَنْهَزِم الكفار، ويؤسر ملوكهم، ويُقْتَل منهم ثلاثون ألفاً، حتى قِيْل: لم يَبْقَ أحد، ويؤسر منهم ثلاثون ألفاً، حتى قيل: لم يُقْتل أحد.
فلم يُسْمع بمثل هذا اليوم في عِزِ الإسلام وأهله إلا في عهد الصحابة، حتى ذُكِر أن بعض الفلاحين رئي وهو يقود نيفاً وثلاثين أسيراً يربطهم في طُنب خيمته، وباع بعضهم أسيراً بنعل يلبسها، وباع بعضهم أسيراً بكلب يحرس له غنمه.
ثم أمر السلطان صلاح الدين جيوشه أن تستريح لتتقدم إلى فتح بيت المقدس، ففي هذه الاستراحة كيف كانت النفوس المؤمنة التي لا تيئس؟
الرءوس لم تُرفع من سجودها، والدموع لم تُمْسح من خدودها، يوم عادت البِيَعُ مساجد، والمكان الذي يُقال فيه: إن الله ثالث ثلاثة، صار يُشهد فيه أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
ثم سار نحو بيت المقدس ليفتحه من جهته الشرقية ويخرجهم منه، فكان له ذلك على أن يبذل كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير ويخرج ذليلاً، وعن المرأة خمسة، وعن الطفل دينارين، ومن عجز كان أسيراً للمؤمنين، فعجز منهم ستة عشر ألفاً كانوا أسرى للمسلمين.
ودخل المسلمون بيت المقدس، وطَهَّروه من الصليب، وطَهروه من الخنزير، ونادى المسلمون بالأذان، وَوَحدوا الرحمن، وجاء الحق وبَطلت الأباطيل، وكَثُرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، وتَنَزَّلت البركات، وتَجَلَّت الكربات، وأُقِيمت الصلوات، وأَذَّن المُؤَذِنون، وخَرِسَ القسيسون، وأُحْضِر منبر نور الدين الشهيد عليه رحمة الله الجليل الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه، فكان على يدي تلميذه صلاح الدين.
ورقي الخطيب المنبر في أول جمعة بعد تعطل للجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام واحداً وتسعين عاماً، فكان مما بدأ به الخطيب خطبته بعد أن حمد الله أن قال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:٤٥] {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:٤] {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:١٨٧].
معاشر المؤمنين: إن الأقصى لم تعطل فيه الجُمَع، ولم تعطل فيه الجماعة، ومع ذلك:
يَئِسَت أَنْفُس ونامت عيون فجراح تغدو وتأتي جراح
فأين النَّجم من شمسِ وبدرٍ وأين الثعلبان من الهزبر