[أهمية الوعظ والتذكير]
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين؛ فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].
أما بعد:
عباد الله: اعلموا أن المتأمل لحالنا -نحن المسلمين- اليوم، وحال زماننا وما ظهر فيه من الآفات والفتن، وما حصل فيه من انفتاح كبير على الدنيا وزخرفها حتى ظن أهلها أنهم قادرون عليها أو مخلدون فيها؛ ليشعر بالرهبة والإشفاق والخوف الشديد من مظاهر وعواقب هذه الحال؛ إذ قد قست منا القلوب، وتحجرت العيون، وهُجر كتاب علام الغيوب، بل قُرئ والقلوب لاهية ساهية في لُجَج الدنيا وأوديتها سابحة، كيف لا وقد زينا -غير متبعين- جدران بيوتنا بآيات القرآن، ثم لم نُزين حياتنا بالعمل بالقرآن، يقرؤه البعض منا -غير مقتدين- على الأموات، ثم لا يحكمونه في الأحياء، بل جعلت البركة في مجرد حمله وتلاوته، وتركت بركته الحقيقية المتمثلة في اتباعه وتحكيمه امتثالاً لقول الله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:١٥٥] غفلنا ولم نشعر أننا غفلنا، وهذه -لعمر الله- أدهى وأَمَرُّ فينا؛ كثر القلق، وغلب الهم والحزن، وصَاحَبَ ذلك الأَرَق، مُكِر مكر شديد بالليل والنهار بأساليب ووسائل خبيثة ماكرة، تزين الفاحشة وتصدُّ عن الآخرة.
فَشَتْ الفواحش والمظالم، ونيل من الأعراض، وأكلت الأموال، وظهرت صور صارخة من الحسد والبغضاء والفُرْقَة والخلاف حتى بين خبراء الفضل والإحسان، وعندها اسُتضعف المسلمون، وتبجح وتسلط الملحدون والمجرمون.
قلنا ولم نفعل أمام عدونا وعلى أحبتنا نقول ونفعل
قلَّ الاهتمام والعناية بركيزة الوعظ والتذكير كركيزة تربوية مؤثرة مفيدة، فصرت تسمع من يقلل من أهمية كتاب أو محاضرة أو درس يُرَكِّز على هذا الجانب، فيقال: هذا كتاب وعظي، ومحاضره وعظية، ومقال عاطفي، وكبرت من كلمة:
إن صح أن الوعظ أصبح فضلة فالموت أرحم للنفوس وأنفع
فلولا رياح الوعظ ما خاض زورق ولا عبرت بالمبحرين البواخر
عندها عُطلت طاقاتنا الإيمانية.
وكيف يعيش في البستان غرس إذا ما عُطلت عنه السواقي
هبت رياح المعصية فأطفأت شموع الخشية من قلوبنا، وطال علينا الأمَدُ فَعَلا القلوب قسوة كما قست قلوب أهل الكتاب؛ فهي كالحجارة أو أشد قسوة.
أسأنا فهم الدين الذي هو سر تميُّزنا وبقائنا، فشُغلنا بالشكل عن الجوهر، وبالقالب عن القلب، وبالمبنى عن المعنى، بذكريات مجيدة وتواريخ تليدة، نحتفل غالباً مبتدعين غير متبعين، وأحياناً نهتم بطبع الكتب الشرعية مفتخرين، ثم نتمرد على مضمونها هازئين.
حالنا كالذي يقبِّل يد والده ولا يسمع نصحه، إنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين، وإنَّا لنخشى أن نصبح في زمرة من قال الله فيهم: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأعراف:٥١] وأسوأ ما تمرُّ به أمة، وأتعس ما تمرُّ به أمة أن يصبح اللهو فيها ديناً، والدين فيها لَهْواً، ثم لا تسمع نصحاً.
بُحَّ المنادي والمسامع تشتكي صَمَماً وأصبحت الضَّمَائِر تُشْتَرى
تاهت سفائنها فما خاضت بها بحراً ولا هي في الشواطئ تظهر
لهذا كله كان لابد من الوقوف على بعض مشاهد الحسرة في الأخرى، لعل النفوس تستيقظ وتخشع وتذل فتبادر إلى الحسنى، فما هناك من أمر هو أشدُّ دفعاً للنفوس إلى فعل الخير من أمر الآخرة، والوقوف بين يديْ من له الأولى والآخرة.
فكل ضعف من أسبابه الغفلة عن الآخرة، وفي ذكر اليوم الآخر سعادة وطمأنينة، وسدٌّ منيع دون الهم والحزن وعدم السكينة، وعلام يحزن طالب الآخرة؟ أَعلى أمر حقير يفنى عما قريب؟! كلا.
فالآخرة خير وأبقى.
المؤمن باليوم الآخر لا تؤثر فيه المصائب؛ لأنه موقن أن المصائب إن لم تَزُل عنه زال عنها بالموت لا محالة، فلا تذهب نفسه على الدنيا حسرات.
ذكر اليوم الآخر يطهر القلوب من الحسد والفرقة والاختلاف.
ذكره يهدد الظَلَمَة ليرعووا، ويعزي المظلومين ليسكنوا؛ فكل سيأخذ حقه لا محالة، حتى يقاد للشاةِ الجلحاء من الشاة القرناء، فلا ظلم ولا هضم:
والوزن بالقسط فلا ظلم ولا يؤخذ عبد بسوى ما عملا
ذكر اليوم الآخر يمسح على قلوب المستضعفين والمضطهدين والمظلومين مسحة يقين تسكن معه قلوبهم، ثم تثبت شماء وهي تتطلع لما أعده الله للصابرين من نعيم يُنسى معه كل ضرٍّ وبلاء وسوء وعناء، وتتطلع لما أعده الله للظالمين من بؤسٍ يُنسى معه كل هناء.