للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة النعيم عند طلحة بن عبيد الله]

لما أقبلت عليهم الدنيا جعلوها في أيديهم، وسخروها في مرضات ربهم، أرقتهم حتى إذا ما أخرجوها في مرضات ربهم نام الواحد منهم قرير العين، هادئ البال، ولساناه: ما لي وللدنيا.

هاهو طلحة -رضي الله عنه- يأتيه مال من حضرموت قدره سبعمائة ألف درهم، فبات ليلته تلك يتململ قد جافاه النوم، فقالت له زوجته: مالك أبا محمد؟ قال: تفكرت منذ الليلة فقلت: ما ظن عبدٍ بربه يبيت وهذا المال في بيته!

الله أكبر! أهل الدنيا يتململون ويأرقون ويقلقون في كيفية تصريف المال لتتضخم الثروة، وتحصل السعادة الوهمية بتزايد المال، كما يقول صاحب كتاب التاريخ مواقف وعبر، أما طلحة فيتململ من تكاثر المال عنده خشية أن يحاسب عنه يوم القيامة، مع أنه -والله- ليس إلا الحلال المحض، والله ما هو من رشوة ولا ربا، ولا حيلة ولا غش ولا شبهة، حاشاه رضي الله عنه وأرضاه، لكنها تربية محمدٍ صلى الله عليه وسلم، الذي ثبت عنه كما في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: {يا عائشة ما فعل الذهب؟ -وأي ذهب؟ إنها سبعة دنانير فقط- قالت: هي عندي، قال: ائتيني بها، قالت: فجئت بها فوضعها في يده، ثم قال: ما ظن محمد بالله لو لقي الله عز وجل وهذه عنده، أنفقيها يا عائشة} وفي رواية: {ابعثي بها إلى علي لينفقها} فتصدق بها علي رضي الله عنه وأرضاه، مالي وللدنيا!

وطلحة قبسٌ من ضوئه ولا يتخلف عن ضوئه: ما ظن عبدٍ بربه يبيت وهذا المال في بيته، فقالت زوجه الوفية الصادقة: فأين أنت من فقراء أخلائك، إذا أصبحت فادع بجفانٍ وقصاعٍ فقسمه فيهم، ونم قرير العين أبا محمد.

الله أكبر! ما أعظم التفكير! وما أبلغ المشورة! وما أصدق السلوك!

لها نفس تحل بها الروابي وتأبى أن تحل بها الوهادا

فقال لها: رحمك الله! والله إنك لموفقة بنت موفق.

إنها الزوجة الصالحة يا بنت الإسلام! أكبر عونٍ لزوجها على فعل الخير.

إن المعروف المألوف أن تحاول الزوجة أن تتوسع مع ذويها بالمال، فإذا وُجدِت من تكسر هذا المألوف وتشير على زوجها وتدله إلىالخير، فغاية التوفيق والرشاد والسداد، أيقظت في نفسه دوافع الخير التي يملك منها رصيداً ضخماً، فأثنى عليها وهي للثناء أهل، ألا من هي يا معشر المؤمنين؟

إنها أم كلثوم بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها ولا غرابة! فإن أباها أمام عينها قد خرج من ماله كله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله} رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بيتهم غدوةً وعشياً، فنمت وترعرعت في ذلكم الجو المتمثل للحياة الآخرة في ذهنها في وضوح، تفكيراً وسلوكاً وشعوراً وانتماءً فلا غرابة!

إذا أوقدت نارها بـ العراق أضاء الحجاز سنا نارها

فهمها في العلا والعز ناشئة وهم أترابها في الحلي والذهب

لما أصبح طلحة دعا بالجفان والقصاع، فقسمها بين فقراء المهاجرين والأنصار، وبعث لـ علي -رضي الله عنه- بجفنة، فقالت زوجته أم كلثوم رضي الله عنها: أبا محمد أما لنا فيه من نصيب؟ قال: شأنك بما بقي، فإذا هي صرةٌ بألف درهم

لا يألف الدرهم المضروب صرتهم لكن يمر عليها وهو منطلق

لا إله إلا الله! ينفق في يومٍ واحد ستمائة وتسعةً وتسعين ألفاً، والله ما أخذها من طريق شبهة؛ ناهيك عن أن يأخذها من طريقٍ حرام! لكنه علم أن النعيم لا يدرك بالنعيم، فلكل سلعةٍ ثمن، وسلعة الله غالية سلعة الله الجنة: {من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل}.

كنز المحامد والتقوى دفاتره وليس من كنزه الأوراق والذهب