للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلمات عطرة في الثبات عند البلاء]

وأخرى تجر لخيرٍ منيف، حروفٌ وكلمات ومواقف في الثبات حين البلاء على دين الله وإرهاب أعداء الله، لو وُزِّعت على جبناء أهل الأرض لشجعتهم، جديرةٌ بأن تتداول وتثار وتدرس، والعبر منها تؤخذ في وقتٍ يراد لأبواب الجهاد تحت وطأة التهديد أن تقفل فلا تطرق، وتهمل أسبابه فلا ترمق، وتدفن خيوله فلا تُركض، وتصمت طبوله فلا تنبض، وتربض أسوده فلا تنهض، وتمتد أيادي الكفار إلى المسلمين فلا تقبض، ويرضى بالحياة الدنيا من الآخرة، وتطمس السوافي ما قلدته القوافي، وتعيث الهوافي بالقوادم والقوافي، وتفترس العوافي ما نامت عنه العيون الغوافي.

يا صامتاً فلتنطقن، يا وانياً لا تقعدن، يا ساهياً لا ترقدن، يا خاملاً لا تزهدن، ولا تغب بل اشهدن، تخشى الردى فلتخلدن.

هاهو معاذ رضي الله عنه وأرضاه يفاوض وجهاء الروم في أجنادين، فقالوا له: اذهب إلى أصحابك؛ فوالله لتفرن إلى الجبال غداً، فقال معاذ في عزة المسلم: أما إلى الجبال فلا، ولكن والله الذي لا إله إلا هو لتقتلنا عن آخرنا أو لنخرجنكم من أرضكم أذلة وأنتم صاغرون:

ننزل بالموت إذا الموت نزل الموت عندنا أشهى من العسل

فما كان الغد إلا والروم يفرون إلى الجبال، فيقتلون ويأسرون، نعم:

نكوي أناسي أعيا الطب داؤهم والكي آخر ما تأتي العقاقير

وهاهم أبطال القادسية في ثياب العزة يطلقون حروفاً فتكون على عدوهم حتوفاً، يقول أحدهم: اجعلوا حصونكم السيوف، وكونوا عليها كأسود الأجم، وتربدوا لهم تربد النمور، وثقوا بالله، فإذا سلت السيوف فإنها مأمورة، فأرسلوا عليهم الجنادل، فإنه يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه:

لي وإن كنت كقطر الطل صافي قصفة الرعد وإعصار السوافي

إنما تخاطرون بالجنة ويخاطرون بالدنيا، فلا يكونُن على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم.

فاطلبوا المجد على الأرض فإن هي ضاقت فاطلبوه في السماء

وهاهو الصديق رضي الله عنه وأرضاه يوم ارتدت الجزيرة، وظهر أدعياء النبوة، وأحاطت الجيوش بـ المدينة، وهددت أهلها، يقول بعض من عنده: لا طاقة لنا بحرب العرب جميعاً يا أبا بكر، الزم بيتك وأغلق بابك: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:٩٩] فهب كالأسد:

لمس الزند فاشتعل محنة أمرها جلل

وهو بين ذا وذا في أسى ليس يحتمل

رأب الصدع واشتمل قال في هيئة البطل

[[والله الذي لا إله إلا هو لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله مسلولة ما وضعناها بعد، والله لنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يبغين أحدٌ إلا على نفسه].

لقد أكمل الله الهدى بمحمدٍ فمن يرتدد فالسيف قاضي القضية

وشهدت الطباق السبع والأرضون السبع أن أبا بكرٍ وفى لدين الله، وقام مقاماً لا يقومه أحد غيره، وفي أقل من سنتين يدمر جيوش المرتدين، ولم يمت إلا وجيوشه تحاصر فارس والروم.

ستشهد في التاريخ أنك لم تكن فتى مفرداً بل كنت جيشاً عرمرما

ولقائل أن يقول: أنت تحدثنا عن عصر كله خير وسعادة، نشأ أهله في أحضان النبوة ومدرسة القرآن، فكيف يتوقع مثل هذا من رجالٍ تأخر عصرهم وبعد مصرهم واختلفت هيئتهم؟ فأقول: إن كتاب الله لم يزل محفوظاً يغرس الله عليه غرساً يستعملهم في طاعته إلى يوم القيامة، وإن الجهاد لو قسمت فرائضه، لكان لنا منه حظان بالفرض والتعصيب، فلا غرابة! أحد المجاهدين العلماء في الهند في أواخر القرن الثالث عشر يصدر عليه حكمٌ بالإعدام شنقاً من قاضٍ إنجليزي، يقول القاضي الإنجليزي: هأنذا أحكم عليك بالإعدام، ومصادرة جميع ما تملكه من مالٍ وعتادٍ، ولا يسلم جسدك إلى ورثتك، بل تدفن في مقبرة الأشقياء بكل مهانة، وسأكون سعيداً حين أراك معلقاً مشنوقاً، فتهلل وجه العالم فرحاً وسروراً وحسن ظنٍّ بالله سبحانه وتعالى، ثم بدأ يتمثل بقول القائل:

هذا الذي كانت الأيام تنتظر فليوف لله أقوام بما نذروا

حاله:

آذنت شمس حياتي بمغيبي ودنا المنهل يا نفس فطيبي

أما والذي نفسي لديه لساعة من الغزو خير من عبادة حقبة

وهنا تقدم ضابط إنجليزي، وقال: لم أر كاليوم قط! يحكم عليك بالإعدام وأنت مسرور مستبشر! فقال: ومالي لا أفرح ولا أستبشر؛ وأنا أرجو أن تكون شهادة في سبيل الله، وأنت لا تدري ما حلاوتها لكأنه من شوق الجنة في الجنة، ومن انتظار النعيم في النعيم، قد تمثلت له الحور والقصور، والموت في سبيل الله حبور

لو حنطوك بقولٍ أنت قائله غَنِيت عن نفحات المسك والعود

وهاهو مجاهدٌ آخر بقلمه ولسانه في عصره يقاد إلى القتل، وذنبه أنه يريد فيما نحسبه: أن تكون كلمة الله هي العلياء، ويريد الشهادة معها في سبيل الله، والشهادة حقاً -معشر الإخوة- أن تشهد أن شريعة الله أغلى عليك من حياتك، علق في حبل المشنقة كالطود الشامخ، فانقطع الحبل به، فقال في عزة المؤمن وشموخه على الباطل وأهله: جاهليتكم رديئة وحتى حبالكم رديئة، ولقي الله وحاله:

جد بالدما من غير من إن لم تذد عنها فمن؟

فرحمه الله من فردٍ في أمةٍ ولودٍ للذرية، ولأسباب حياة الذرية.