للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من آثار الإيمان: العزة]

ومن آثار الإيمان على حياة الناس: أنه يُكسب العزة التي تجعل الإنسان يمشي نحو هدفه مرفوع القامة والهامة، لا يحني رأسه لمخلوق، ولا يطأطئ رقبته لجبروت أو طغيان أو مال أو جاه، فهو سيد في الكون هذا وعبد لله وحده.

لا غرو إذا رأينا مؤمناً أعرابياً مثل ربعي بن عامر حين باشرت قلبه بشاشة الإيمان، وأضاءت فكره آيات القرآن، يقف أمام رستم في سلطانه وإيوانه غير مكترث له ولا عابئ به، حتى إذا سأله رستم: من أنتم وما الذي جاء بكم؟

زعق في الإيوان وأجاب إجابة في عزة مؤمنة خلدها التاريخ فقال: [[نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلي سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].

عزة وأي عزة! إنها لا توجد إلاّ في ظلال الإيمان.

أمَّة الصحراء يا شعب الخلود من سواكم حل أغلال الورى

أي داعٍ قبلكم في ذا الوجود صاح لا كسرى هنا لا قيصرا

من سواكم في قديم أو حديث أطلع القرآن صبحاً للرشاد

هاتفاً في مسمع الكون العظيم ليس غير الله رباً للعباد

فكِّروا في عصركم وانتبهوا طالما كنتم جَمَالاً للعُصُر

وابعثوا الصحراء عزماً وابعثوا مرة أخرى بها روح عمر

هاهو آخر قد آمن بالله حقاً، فأكسبه ذلك الإيمان عزة، جعل يتكلم في هشام بن عبد الملك الخليفة كلاماً غليظاً جافياً، فأمر هشام بإحضاره، فلما وقف بين يديه جعل يتكلم، فقال هشام له: وتتكلم أيضاً في مجلسي؟! فقال: يقول الله جل وعلا: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل:١١١] أفنجادل الله جدالاً ولا نكلمك يا هشام؟!

فما كان من هشام إلا أن قال: قل ما شئت، ثم انصرف راشداً، فقال ما شاء وانصرف راشداً بعزة المؤمن: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [المنافقون:٨].

إن العزّة أثر إيماني يُظهر صاحبه الحق، لا يخشى دون الله أحداً، ليس هذا فحسب، وهاكم مثلاً آخر.

ذلكم الشيخ سعيد الحلبي عالم الشام في عصره، كان في درس من دروسه ماداً رجله في مسجد من مساجد الشام، فدخل إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا والي مصر آنذاك، فقام الناس كلهم إلاّ هذا الشيخ، وبقي مادّاً رجله في حلقته يلقي قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، فتأثر ذلك الطاغية، وأثَّر ذلك في نفسه إذ لم يقم له هذا الشيخ، فقال في نفسه: لآتينه من باب لطالما أُتي طلبة العلم من هذا الباب.

فذهب وأضمر له ما أضمر، وأحضر ألف ليرة ذهبية -في وقت الشيخ قد لا يجد فيه ليرة واحدة- وقال لأحد جنوده: اذهب إلى الشيخ وأعطه هذه، فأخذ هذا الجندي ذلك المبلغ، وذهب به إلى الشيخ ولا زال مادّاً رجله في حلقته يدرس قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، ويكتسب العزة من خلال قال الله وقال رسوله.

فجاء إليه وقال: إن إبراهيم باشا يقول: خذ هذه الألف الليرة الذهبية.

فما كان منه إلا أن نظر إليه بعزة المؤمن، وتبسم تبسم المغضب، وقال: ردها له، وقل له: إن الذي يمد رجليه لا يمد يديه.

أنا أقول: ربما يكون الشيخ في تلك اللحظة لا يملك ليرة ذهبية واحدة، لكن كنز الإيمان أعظم وأغلى من أن يباع بألف ليرة أو بليرة أو بأقل أو بأكثر، وهكذا يكون المؤمنون: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [المنافقون:٨].

وإن نسيت -أيها الأحبة- فلا أنسى سيداً رحمه الله وتجاوز عني وعنه، الذي اعتزَّ بإيمانه، فصدع بكلمة الحق بلا استحياء ولا خجل، فحكم عليه بالقتل.

وطلبوا منه أن يقدم استرحاماً حتى يخفف عنه الحكم، ولكنه أبى رحمه الله وقال قولته الشهيرة: إن كنت حوكمت بحق فأنا أرضى بالحق، وإن كنت حوكمت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل، إن إصبعي السبابة التي تشهد لله بالوحدانية مرات في اليوم لترفض أن تكتب كلمة واحدة تقر بها حكم طاغية.

ماذا كان سيفعل سيد لولا الإيمان؟ يا للعزة! ويا للثبات! {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [المنافقون:٨].