يقول سعد بن مالك رضي الله عنه وأرضاه:[[كنا قبل الهجرة يصيبنا شظف العيش وشدته فلا نصبر عليه]] كانوا في رغدٍ من العيش، فلما أسلموا واستسلموا لله، عاداهم قومهم، وضيقوا عليهم في معيشتهم، وما نقموا منهم إلا أن آمنوا بالله، فلم تألف ولم تعتد أجسادهم، ولم تتدرب على حياة الفقر والشدة وقد ألفت رغد العيش، أما قلوبهم ونفوسهم فلقوة إيمانهم كانت في غاية النعيم؛ حيث خولطت بشاشتها بالإيمان، فهم سادة الصابرين في الضراء، الشاكرين في السراء، كيف وهم يتلمحون ويرجون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟ ويؤمنون
بأن كريمات المعالي مشوبةٌ بمستودعات في بطون الأساود
قال سعد:[[فما هو إلا أن هاجرنا، فأصابنا الجوع والشدة، فاستضلعنا بهما، وقوينا عليهما]] اعتادت أجسادهم وانسجمت مع حياة الفقر والشدة وخشونة العيش، فأصبح القلب والجسد في ألفة لهذه الحياة، أيقنوا بالنقل أن الابتلاء مع الصبر والاحتساب كفارة للخطايا فـ {ما يزال البلاء بالمؤمن حتى يلقى الله وما عليه خطيئة} كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكانوا بحق:
صبراً على خوض المكاره أنفسٌ لا تستكين وأعظم لا تضطرب
قال سعد:[[إلا مصعب بن عمير، فقد كان أترف غلامٍ بـ مكة بين أبويه فيما بيننا، فلما أصابه ما أصابنا، لم يقوَ على ذلك]] ظل عدم الإلفة والانسجام واضحاً في حياة مصعب مكة لؤلؤة ندواتها ومجالسها، مالُ الأم بين يديه يتصرف به كيف شاء، حتى إذا ما أسلم لله واستسلم منع هذا كله.
يقول سعد:[[فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية، ولقد رأيته ينقطع به فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القسي، ثم نحمله على عواتقنا]].
والله معاشر المؤمنين ما كان من يريدهم على غير دينهم إلا كالقائل لشجرة التفاح: أثمري غير التفاح، فهيهات لا براح، لاقى ما لاقى من أمه وقد كان فتاها المدلل، أفلت منها، وهاجر إلى الحبشة.
ارتدى المرقع البالي خشناً، وقد كانت ثيابه كزهور الحديقة نظرة وألقاً، خرج من النعمة الوارفة إلى شظف العيش والفاقة يأكل يوماً ويجوع أياماً، لكن روحه المتأنقة في سمو العقيدة، المتألقة بنور الله جعلت منه إنساناً يملأ العين إجلالاً.