[وفاة عمر بن عبد العزيز]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: فلكل أجلٍ كتاب، ولكل بداية نهاية: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:١٨٥] يموت كل صغير وكبير وذكر وأنثى ومُقرٍّ وجاحد وزاهد وعابد: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:١٨٥].
وتنتهي حياة الأخيار بالنهاية الحميدة؛ فكأن الأخيار ما بَئِسُوا مع من بَئِسَ، ما كأنهم سهروا في طاعة الله، ما كأنهم تعبوا، ما كأنهم جاعوا بعد أن تنعموا؛ لأنهم صُبِغُوا في الجنة صَبْغَةً فزال كل بؤس وألم ونصب وتعب وَوَصَبٍ.
وتنتهي في المقابل حياة الفجار بحفرة من حفر النار، فما كأن الفجار تنعموا ولا أكلوا ولا تلذذوا، عند أول صبغة في النار يزول كل نعيم، ولا خير في لذة من بعدها النار.
وتأتي وفاة عمر الذي كان من أعظم ما قاده إلى الله ذكر الموت.
اشتد به المرض وأدخل عليه الأطباء، ووضعوا له العلاج المناسب والشفاء بيد بارئه سبحانه وبحمده، فقال: والله لو كان دوائي في أن أرفع يدي اليمنى إلى أذني ما فعلت، والله ما أنا بحريص على الدنيا فقد مللتها، لكني أسأل الله أن يُسَلِّم.
ثم استدعى خادماً له وقال: أسألك بمَنْ يجمع الناس ليوم لا ريب فيه! أأنت سممتني في الطعام؟ قال الخادم: إي والله.
قال: فكم أعطوك على ذلك؟ قال: ألف دينار.
قال: اذهب فأنت حر لوجه الله، والله يحب المحسنين.
دخل الناس عليه يعودونه، وكان كلما عاده أحد قال له: اُعْفُ عني عفا الله عنك.
قام وخطب الناس فكان مما قال: اتقوا الله قبل حلول الموت بكم؛ إني لأقول هذا وما أعلم أحداً عنده من الذنوب أكثر مما عندي.
ثم خنقته عبرته فأخذ طرف ردائه فوضعه على وجهه يبكي، فما بقي أحد إلا بكى لبكائه، ولم يخطب بعدها رحمه الله.
وفي ضحى يوم عيد الفطر حلت به سكرات الموت، التي لابد من حلولها بكل واحد منا، ونسأل الله أن يحسن الختام، فجاءه مسلمة بن عبد الملك فقال له: إنه قد نزل بك ما نزل، وإنك تركت صبيتك صغاراً لا مال لهم فأوص بهم إليَّ.
فجلس وقال: والله ما منعتهم حقاً هو لهم، ووالله لن أعطيهم ما ليس لهم، إن بنيّ أحد رجلين: إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجاً، وإما مُكِبٌ على المعصية فلم أَكُنْ لأقويه على معصية الله، ثم أمر فقال: ادعوا أبنائي جميعاً، فدعوهم، وكانوا بضعة عشر صبياً كأنهم فراخ.
نظر إليهم بحنان الوالد، نظر لضعف طفولتهم وبراءة أعينهم؛ فذرفت عيناه الدمع ثم قال: أفديكم بنفسي أيتها الفتية الذين تركت ولا مال لهم، أي بَنيّ: إن أباكم كان بين أمرين: إما أن يُغْنيكم ويدخل النار، أو يُفْقركم ويدخل الجنة، فاختار أن يفقركم ويدخل الجنة، لكن إن وليي فيكم الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين.
انصرفوا عصمكم الله.
فانصرف أبناؤه، فجعل يبتهل إلى الله في خشوع ويقول: رباه! أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت.
رباه! ما عندي ما أعدُه إلا خوفي منك وحسن ظني بك وأن لا إله إلا أنت، ثم أمر الناس أن يخرجوا فكانوا يسمعونه يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:٨٣] وأسلمَ الروح إلى باريها-فرحمة الله عليه-:
جسد لُفِّفَ في أكفانه رحمة الله على ذاك الجسد
كان يقول قبل وفاته: إذا غسَّلتموني وكفَّنتموني ووضعتموني في لحدي فاكشفوا عن وجهي، فإن ابْيضَّ فاهنئوا، وإن اسْودَّ فويلٌ لي، ثم ويلٌ لي.
يقول رجاء: فكنت فيمن غسَّله وكفَّنه وأدخله لَحده، وحلَلْت العُقدة من كفنه، ثم نظرت إلى وجهه، فإذا هو كالقراطيس بَياضًا.
بيَّض اللهُ وجهه يومَ تبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوه.
أسلم الروحَ عمر، فأُسكِتَ فمٌ لطالما تلجلج بذكر الله، وأُغمِضتْ عينان لطالما ذَرَفَتا من خشية الله، واستراحتْ يدان لطالما هَدَت لما يُرضي الله.
ودَّع الأمة والجياع شبعوا، والخائفون أَمِنُوا والمستضعَفون نُصروا بإذن ربهم، وجد اليتامى فيه أباً لهم، والأيامى لهم كافلاً، والتائهون لهم دليلاً، والمظلومون لهم نصيراً، وحلَّت المصيبة بالمسلمين، وأُغلقت القلوب بحزنها، والعيون بدمعها.
فاليومُ تنعمُ يا عمر بجوار من أَهدى البشرْ
فسَقى رُفاتك وَابلاً مِن ماءِ غيثٍ منهمرْ
يقول مسلمة: يرحمك الله يا عمر! لقد ليَّنتَ قلوباً قاسية، وأبقيتَ لنا في الصالحين ذِكراً.
ذهب عمر بعد أن حقَّقَ العدل والطمأنينة والسكينة والأمن بالإيمان في سنتين وخمسة أشهر وبِضعة أيام، كان كثيراً ما يقول ويردِّد: "إنَّ الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما، إنَّ الرجال لا تُقاس بالأعمار ولكن بالهِمَم والأعمال".
مات عمر وما مات ذِ كره، ولا يموت ذِكرُ الصالحين، لهج المسلمون بالدعاء والثناء عليه، ليس المسلمون فحسب، هاهو ملك الروم ليون الثالث يقول: لو كان رجل يحي الموتى بعد عيسى لكان عمر، واللهِ لا أَعجَب من راهبٍ جلس في صَوْمعته وقال إنَّي زاهد، لكنِّي أعجب من عمر يوم أَتَتْه الدنيا حتى أناخت عند قدميه فركلها بقدميه وأعرض عنها واختار ما عند الله.
ليس هذا فحسب، بل بكى عليه أحد رُهبان النصارى، فقيل له: لِمَ تبك عليه وعمر على غير دينك؟ قال: يرحمه الله قد كان نوراً في الأرض فأُطفِئ.
هذه سيرة عمر أيها الأخ الكريم، هل أعجبتك؟ إن أعجبتك فاقْتَدِ بها، اقْتَدِ بـ عمر وبالصالحين علَّك أن تكون بعضَهم إن لم تكن جُلَّهُم، فإن لم تستطع ذلك وجاهدتَ نفسك فأحبَّهم، فالمرءُ مع مَنْ أَحبَّ.
إذا أعجبتك خِصال امرئٍ فَكُنه يَكُن منك ما يُعجبكْ
فليس على الجُودِ والمَكرُماتِ إذا جِئتَها حاجباً يحْجِبُكْ
اللهم يا من لا تراه في الدنيا العيون، ولا تُخالِطه الظنون، ولا يصِفه الواصفون! يا من قَدَّر الدهور، ودبَّر الأمور، وعلِم هواجس الصدور! يا من عزَّ فارتفع! وذلُّ كلُّ شيء له فخضع، وجهك أكرم الوجوه، وجاهُك أعظم الجاه، وعطيِّتك أعظم العطيِّة، تجيب المضطرَّ، وتكشف الضرَّ، وتغفر الذنب، وتقبل التوب، لا إله إلا أنت!
يا من أظهر الجميل! يا من ستر القبيح! يا من لا يهتِك الستر! يا حَسَنَ التجاوز! يا واسعَ المغفرة! يا باسطَ اليدين بالرحمة! يا عظيمَ المَنِّ! يا كريمَ الصَّفْح! يا صاحبَ كلِّ نَجْوَى! يا دافع كل بلوى! اجعلنا من العادلين واغفر لآبائنا وأمهاتنا وسائر المؤمنين، واحشرنا مع المقسطين، في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، برحمتك يا أرحم الراحمين.