فَلَعَلَّهُ جَازَ عِنْدَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ طَعَامًا وَغَيْرَهُ مِنْ الْعَرَضِ بِقِيمَةِ الدَّنَانِيرِ فَأَسْرَعُوا إلَى أَنْ يُعْطُوهُ مِنْ الطَّعَامِ لِكَثْرَتِهِ عِنْدَهُمْ يَقُولُ الثِّيَابُ خَيْرٌ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ وَأَهْوَنُ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا مُؤْنَةً كَثِيرَةً فِي الْمَحْمَلِ لِلثِّيَابِ إلَى الْمَدِينَةِ وَالثِّيَابُ بِهَا أَغْلَى ثَمَنًا.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا تَأْوِيلٌ لَا يُقْبَلُ إلَّا بِدَلَالَةٍ عَمَّنْ رَوَى عَنْهُ فَإِنَّمَا قُلْنَاهُ بِالدَّلَائِلِ عَنْ مُعَاذٍ وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ هَذَا، أَخْبَرَنَا مُطَرِّفُ بْنُ مَازِنٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ مُعَاذًا قَضَى: «أَيُّمَا رَجُلٍ انْتَقَلَ مِنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ إلَى غَيْرِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَعُشْرُهُ وَصَدَقَتُهُ إلَى مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ».
(قَالَ الشَّافِعِيُّ): فَبَيَّنَ فِي قِصَّةِ مُعَاذٍ أَنَّ هَذَا فِي الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً وَذَلِكَ أَنَّ الْعُشْرَ وَالصَّدَقَةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِلْمُسْلِمِينَ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ): وَإِذَا رَأَى مُعَاذٌ فِي الرَّجُلِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ الصَّدَقَةَ يَنْتَقِلُ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ عَنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ أَنْ تَكُونَ صَدَقَتُهُ وَعُشْرُهُ إلَى مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ وَذَلِكَ يَنْتَقِلُ بِصَدَقَةِ مَالِهِ النَّاضِّ وَالْمَاشِيَةِ فَيَجْعَلُ مُعَاذٌ صَدَقَتَهُ وَعُشْرَهُ لِأَهْلِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ لَا لِمَنْ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِقَرَابَتِهِ دُونَ أَهْلِ الْمِخْلَافِ الَّذِي انْتَقَلَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ أَنَّ مِخْلَافَ عَشِيرَتِهِ لِعَشِيرَتِهِ، وَإِنَّمَا خَلَطَهُمْ غَيْرُهُمْ وَكَانَتْ الْعَشِيرَةُ أَكْثَرَ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ رَأَى أَنَّ الصَّدَقَةَ إذَا ثَبَتَتْ لِأَهْلِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ لَمْ تُحَوَّلْ عَنْهُمْ صَدَقَتُهُ وَعُشْرُهُ بِتَحَوُّلِهِ وَكَانَتْ لَهُمْ كَمَا تَثْبُتُ بَدْءًا.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ): وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُشْرُهُ وَصَدَقَتُهُ الَّتِي هِيَ بَيْنَ ظَهَرَانِي مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ لَا تَتَحَوَّلُ عَنْهُمْ دُونَ النَّاضِّ الَّذِي يَتَحَوَّلُ، وَمُعَاذٌ إذْ حَكَمَ بِهَذَا كَانَ مِنْ أَنْ يَنْقُلَ صَدَقَةَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الصَّدَقَةِ إلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ أَكْثَرُهُمْ أَهْلُ الْفَيْءِ أَبْعَدَ، وَفِيمَا رَوَيْنَا مِنْ هَذَا عَنْ مُعَاذٍ مَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا: لَا تُنْقَلُ الصَّدَقَةُ مِنْ جِيرَانِ الْمَالِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ الصَّدَقَةُ إلَى غَيْرِهِمْ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ): وَطَاوُسٌ لَوْ ثَبَتَ عَنْ مُعَاذٍ شَيْءٌ لَمْ يُخَالِفْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَطَاوُسٌ يَحْلِفُ مَا يَحِلُّ بَيْعُ الصَّدَقَاتِ قَبْلَ أَنْ تُقْبَضَ وَلَا بَعْدَ أَنْ تُقْبَضَ وَلَوْ كَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَنْ احْتَجَّ عَلَيْنَا بِأَنَّ مُعَاذًا بَاعَ الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالثِّيَابِ كَانَ بَيْعُ الصَّدَقَةِ قَبْلَ أَنْ تُقْبَضَ وَلَكِنَّهُ عِنْدَنَا إنَّمَا قَالَ: ائْتُونِي بِعُرْضٍ مِنْ الثِّيَابِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَانَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ جَاءَ أَبَا بَكْرٍ بِصَدَقَاتٍ وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ وَهُمَا، وَإِنْ جَاءَا بِمَا فَضَلَ عَنْ أَهْلِهِ مَا فَقَدْ نَقَلَاهَا إلَى الْمَدِينَةِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَدِينَةِ أَقْرَبُ النَّاسِ نَسَبًا وَدَارًا مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى سَعَةٍ مِنْ مُضَرَ وطيئ مِنْ الْيَمَنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ حَوْلَهُمْ ارْتَدَّ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَقٌّ فِي الصَّدَقَةِ وَيَكُونُ بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ حَقٍّ هُمْ أَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهِمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُؤْتَى بِهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ يَأْمُرُ بِرَدِّهَا إلَى غَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ خَبَرٌ نَصِيرُ إلَيْهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُؤْتَى بِنَعَمٍ مِنْ نِعَمِ الصَّدَقَةُ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ): فَبِالْمَدِينَةِ صَدَقَاتُ النَّخْلِ وَالزَّرْعِ وَالنَّاضِّ وَالْمَاشِيَةِ وَلِلْمَدِينَةِ سَاكِنٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَحُلَفَائِهِمَا وَأَشْجَعَ وَجُهَيْنَةَ وَمُزَيْنَةَ بِهَا وَبِأَطْرَافِهَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَعِيَالُ سَاكِنِ الْمَدِينَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَعِيَالُ عَشَائِرِهِمْ وَجِيرَانِهِمْ وَقَدْ يَكُونُ عِيَالُ سَاكِنِ أَطْرَافِهَا بِهَا وَعِيَالُ جِيرَانِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ فَيُؤْتَوْنَ بِهَا وَيَكُونُونَ مَجْمَعًا لِأَهْلِ السُّهْمَانِ كَمَا تَكُونُ الْمِيَاهُ وَالْقُرَى مَجْمَعًا لِأَهْلِ السُّهْمَانِ مِنْ الْعَرَبِ وَلَعَلَّهُمْ اسْتَغْنَوْا فَنَقَلَهَا إلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِهِمْ دَارًا وَنَسَبًا وَكَانَ أَقْرَبُ النَّاسِ بِالْمَدِينَةِ دَارًا وَنَسَبًا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ عُمَرَ كَانَ يَحْمِلُ عَلَى إبِلٍ كَثِيرَةٍ إلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، قِيلَ لَهُ: لَيْسَتْ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْمِلُ عَلَى مَا يَحْتَمِلُ مِنْ الْإِبِلِ، وَأَكْثَرُ فَرَائِضِ الْإِبِلِ لَا تَحْمِلُ أَحَدًا.
أَخْبَرْنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُؤْتَى بِنَعَمٍ كَثِيرَةٍ مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ، أَخْبَرْنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ الدَّارِ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَهُ: أَرَأَيْت الْإِبِلَ الَّتِي كَانَ يَحْمِلُ عَلَيْهَا عُمَرُ الْغُزَاةَ وَعُثْمَانُ بَعْدَهُ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّهَا إبِلُ الْجِزْيَةِ الَّتِي كَانَ يَبْعَثُ بِهَا مُعَاوِيَةُ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، قُلْت: وَمِمَّنْ كَانَتْ تُؤْخَذُ؟
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute