قلت: لو كان، ورعًا كما ينبغي لما قال هذا الكلام القبيح في حق إمام عظيم، فمالك إنما لم يعمل بظاهر الحديث؛ لأنه رآه منسوخًا. وقيل: عمل به، وحمل قوله:"حتى يتفرقا" على التلفظ بالإيجاب، والقبول، فمالك في هذا الحديث، وفي كل حديث له أجر، ولا بد فإن أصاب، ازداد أجرًا آخر، وإنما يرى السيف على من أخطأ في اجتهاده الحرورية (١). وبكل حال فكلام الأقران بعضهم في بعض لا يعول على كثير منه فلا نقصت جلالة مالك بقول ابن أبي ذئب فيه، ولا ضعف العلماء ابن أبي ذئب بمقالته هذه بل هما عالما المدينة في زمانهما ﵄، ولم يسندها الإمام أحمد فلعلها لم تصح.
كتب إلي مؤمل البالسي، وغيره: أن أبا اليمن الكندي أخبرهم: أنبأنا القزاز، أنبأنا أبو بكر الخطيب، أنبأنا أبو سعيد الصيرفي، حدثنا الأصم، حدثنا عباس الدوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول: ابن أبي ذئب سمع عكرمة.
وبه: قال الخطيب: أنبأنا الجوهري، أنبأنا المرزباني، حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى، حدثنا أبو العيناء قال: لما حج المهدي، دخل مسجد رسول الله -صلى الله عليه، وسلم- فلم يبق أحد إلَّا قام، إلَّا ابن أبي ذئب. فقال له المسيب بن زهير: قم، هذا أمير المؤمنين. فقال: إنما يقوم الناس لرب العالمين. فقال المهدي: دعه، فلقد قامت كل شعرة في رأسي.
وبه: قال أبو العيناء: وقال ابن أبي ذئب للمنصور: قد هلك الناس فلو أعنتهم من الفيء. فقال: ويلك لولا ما سددت من الثغور، لكنت تؤتى في منزلك، فتذبح. فقال ابن أبي ذئب: قد سد الثغور، وأعطى الناس من هو خير منك: عمر ﵁ فنكس المنصور رأسه والسيف بيد المسيب ثم قال: هذا خير أهل الحجاز.
قال أحمد بن حنبل: ابن أبي ذئب ثقة. قد دخل على أبي جعفر المنصور، فلم يهله أن قال له الحق. وقال: الظلم ببابك فاش وأبو جعفر أبو جعفر.
قال مصعب الزبيري: كان ابن أبي ذئب فقيه المدينة.
(١) الحرورية لقب من ألقاب الخوارج، ومن ألقابهم أيضا "الشراة" و"الحرارية" ومن ألقابهم "المارقة"، ومن ألقابهم "المحكمة"، وهم يرضون بهذه الألقاب كلها إلا بالمارقة فإنهم ينكرون أن يكونوا مارقة من الدين كما يمرق السهم من الرمية، والسبب الذي له سموا خوارج خروجهم عن علي بن أبي طالب، والذي له سموا محكمة إنكارهم الحكمين وقولهم: لا حكم إلا لله، والذي له سمو حرورية نزولهم بحروراء في أول أمرهم وهو موضع بظاهر الكوفة، والذي ل سموا "شراة" قولهم: شرينا أنفسنا في طاعة الله أي بعناها بالجنة.