ثم كمحمد بن جرير الطبري، وأبي بكر بن خزيمة، وأبي عباس بن سريج، وأبي بكر بن المنذر، وأبي جعفر الطحاوي، وأبي بكر الخلال.
ثم من بعد هذا النمط تناقص الاجتهاد، ووضعت المختصرات، وأخذ الفقهاء إلى التقليد من غير نظر في الأعلم، بل بحسب الاتفاق، والتشهي، والتعظيم، والعادة، والبلد. فلو أراد الطالب اليوم أن يتمذهب في المغرب لأبي حنيفة، لعسر عليه، كما لو أراد أن يتمذهب لابن حنبل ببخارى وسمرقند، لصعب عليه، فلا يجيء منه حنبلي، ولا من المغربي حنفي، ولا من الهندي مالكي وبكل حال: فإلى فقه مالك المنتهى، فعامة آرائه مسددة، ولو لم يكن له إلا حسم مادة الحيل، ومراعاة المقاصد لكفاه.
ومذهبه قد ملأ المغرب والأندلس، وكثيرا من بلاد مصر، وبعض الشام، واليمن، والسودان، وبالبصرة وبغداد، والكوفة، وبعض خراسان.
وكذلك اشتهر مذهب الأوزاعي مدة وتلاشى أصحابه، وتفانوا. وكذلك مذهب سفيان وغيره ممن سمينا ولم يبق اليوم إلا هذه المذاهب الأربعة. وقل من ينهض بمعرفتها كما ينبغي، فضلا عن أن يكون مجتهدا وانقطع أتباع ثور بعد الثلاث مائة، وأصحاب داود إلا القليل، وبقى مذهب جرير إلى ما بعد الأربعمائة.
وللزيدية مذهب في الفروع بالحجاز وباليمن، لكنه معدود في أقوال أهل البدع، كالإمامية، ولا بأس بمذهب داود، وفيه أقوال حسنة، ومتابعة للنصوص، مع أن جماعة من العلماء لا يعتدون بخلافه، وله شذوذ في مسائل شانت مذهبه.
وأما القاضي عياض، فذكر ما يدل على جواز تقليدهم إجماعا، فإنه سمى المذاهب الأربعة والسفيانية والأوزاعية، والداودية. ثم إنه قال: فهؤلاء الذين وقع إجماع الناس على تقليدهم، مع الاختلاف في أعيانهم، واتفاق العلماء على اتباعهم، والاقتداء بمذاهبهم، ودرس كتبهم، والتفقه على مآخذهم، والتفريع على أصولهم، دون غيرهم ممن تقدمهم أو عاصرهم؛ للعلل التي ذكرناها.
وصار الناس اليوم في الدنيا إلى خمسة مذاهب، فالخامس: هو مذهب الداودية. حق على طالب العلم أن يعرف أولاهم بالتقليد، ليحصل على مذهبه. وها نحن نبين أن مالكا ﵀ هو ذلك؛ لجمعه أدوات الإمامة، وكونه أعلم القوم.